اقتصاد المعرفة أو القادمون الجدد

27 يونيو 2014
+ الخط -

كانت التحولات الكبرى في الدول والمجتمعات على مدى التاريخ تتشكل حول التطورات في الموارد والتقنية. وفي ذلك، صعدت وهبطت دول وطبقات ومجتمعات وفئات اجتماعية أو مهنية. في مرحلة الصناعة، سقطت الأرستقراطية وصعدت الطبقة الوسطى، وانتهت الديكتاتوريات وصعدت الديمقراطية،... فمن هم القادمون الجدد في اقتصاد المعرفة، ومن هم المنقرضون؟ السؤال ليس جديداً، ويكاد يكون أكثر الموضوعات شغلاً للكتب والدراسات الغربية (بالطبع)، ولو حاول كل إنسان التأمل في الأسواق والأعمال والعلاقات، فإنه سوف يلاحظ بالتأكيد حجم التغير الكبير والعميق في الأسواق والحياة عامة. يمكن لأحدنا أن يسير في الأسواق والشوارع التجارية، وينظر ويقرأ اللافتات، ويقارن ما يشاهده بما كان عليه الحال قبل عشرين سنة، أو ينظر في السلع والأجهزة المعروضة، ثم يتخيل الأعمال والمهن الجديدة الصاعدة والمنسحبة، ثم يقدر من هم القادمون الجدد!

في الحوسبة التي هيمنت على العالم، صعدت شركات الحواسيب والبرمجة، كما نلاحظ في مايكروسوفت وأبل وسامسونغ ونوكيا،.. وفرسانها المبرمجون ومهندسو الكمبيوتر ومصممو الأفكار والأجهزة، ونجماها بيل غيتس وستيف جوبز. وفي موجة الاتصالات، صعدت شركات عملاقة لم تكن من قبل، أو كانت صغيرة محدودة، وظهر قادة أعمال جدد، وفي الشبكية (الإنترنت)، ظهرت غوغل وفسبوك وتويتر،... وفي النانو تكنولوجي والهندسة الحيوية، تشكلت أعمال واسعة في الزراعة والغذاء والطب، ثم أعاد القائمون على الخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة والرعاية، إدارة أعمالهم وتنظيمها، وفق هذه التقنيات الجديدة، محدثين تغييرات كبيرة فيها، وبطبيعة الحال، فإن المؤسسات والمهن التعليمية والطبية تتغير تغيراً جذرياً!

ووجد الناشطون والقادة الاجتماعيون الجدد مجالاً جديداً للعمل والتأثير، وخرجت من الحصار والتهميش طبقات وفئاتٌ لم يكن متاحاً لها من قبل المشاركة، واتخذ النضال لأجل الكرامة والحريات وتحسين الحياة أدواتٍ ووسائل جديدة، وسلك في آفاق جديدة مختلفة. وسأغامر بالقول إن النخب التي تشكلت مصاحبة للدولة الحديثة في السنوات المائة الماضية، من قادة السياسة والمجتمعات والأعمال والثقافة والمؤسسات، تؤول إلى السقوط، إلا فئة قليلة منها؛ من القادة الذين يحاولون أن ينهضوا بدولهم ومجتمعاتهم وأعمالهم، ويستوعبوا التغيرات، أو تسعفهم نياتهم الحسنة في الإصلاح. وبعامة، إنها طبقة تلعب في الوقت الضائع، وليس لها أمل في البقاء والاستمرار، سوى أن تطور نفسها، وتشارك القادمين الجدد، أو تمضي في صناعة الخوف والحروب الأهلية الداخلية والفوضى، وهذا سوف يزيد أزمتها مع المجتمعات والناس، لأنها تزداد سوءاً وقبحاً في نظرهم، وتضيف إلى فشلها وفسادها أنها تتحول إلى جماعات من الأشرار!

لقد توجت التقنية الجديدة، أو مرحلة اقتصاد ومجتمعات المعرفة، بـ"الأنسنة"، بمعنى قابليتها للتداول والاستخدام بسهولة وبساطة، من غير خبرات معقدة، ومن دون حاجة إلى تدريب متخصص ومؤسسي، بل يمكن لكل إنسان (تقريباً) إتقانها والتعلم ذاتياً على استخدامها وتطبيقها. "الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه" تكاد هذه العبارة تلخص المحتوى الجديد لاقتصاد المعرفة، ففي قدرة الإنسان على التعلم والتواصل والعمل مستقلاً عن السلطات والشركات الكبرى، وفي تطور تقنيات الطاقة والتواصل والغذاء والصحة سيكون في مقدور الأفراد والمجتمعات الاستقلال عن الدولة والشركات بنسبة كبيرة. ولذلك، سوف تعيد المجتمعات تنظيم نفسها من جديد، حول أولوياتها وخدماتها، لتدير، معتمدة على نفسها، مواردها وخدماتها الأساسية في التعليم والرعاية وتوفير السلع والخدمات. وبذلك، سوف تعيد إدارة وتنظيم علاقتها بالحكومات والشركات اعتماداً على قدراتها وفرصها الجديدة.

سوف تكون المجتمعات قوة ثالثة جديدة، إلى جانب الشركات والحكومات، وبطبيعة الحال، فإن قادة المجتممعات سوف يكونون قادة جدداً، ومؤثرين في الدولة والمجتمع، رؤساء البلديات وقادتها وأعضاء مجالسها وقادة الأعمال والمؤسسات المجتمعية في التعليم والصحة والخدمات والرياضة والثقافة، ومن بين هؤلاء ستكون نسبة كبيرة من أعضاء المجالس النيابية، وبطبيعة الحال الوزراء!

سيكون في مقدور المدن والمحافظات أن تمول وتدير وتنظم معظم، إن لم يكن جميع، الخدمات والاحتياجات الأساسية والإدارية. وبذلك، سوف يتراجع كثيراً الإنفاق الحكومي، وكذلك المؤسسات المركزية، ففي قدرة المجتمعات على إدارة ومراقبة الطرق والأماكن العامة بتكاليف قليلة، وتقنيات متاحة، يقل كثيراً عدد أفراد الأمن، وتصبح الأجهزة الأمنية مكاتب تقنية أنيقة محدودة العدد. وفي انتهاء الحروب، وتطور تقنيات المراقبة والردع، تتغير الجيوش ووسائل الدفاع. وفي ولاية المجتمعات والبلديات على التعليم والصحة والرعاية، تتحول الوزارات المركزية لهذه الخدمات إلى مؤسسات للتنسيق والمراقبة، أكثر منها تنفيذية مباشرة.

وهكذا، فإن الأرستقراطية القادمة سوف يضاف إليها مجموعتان جديدتان مؤثرتان، بل وحاسمتان، قادة المجتمعات، وقادة الإبداع والابتكار والخيال!

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"