النفط 10% اقتصاد و90% سياسة

31 ديسمبر 2014
+ الخط -

لا يوجد سلعة أخرى، عبر التاريخ، كان لها هذا البعد السياسي كما هو للنفط اليوم، وعلى الرغم من أن مصادر الطاقة كانت مفتاح قيام الإمبراطوريات الكبرى واضمحلالها، فإنه لم يكن لأي منها هذا الدور الذي للنفط في العصر الحديث، ويتوقع أن تبقى له هذه الأهمية حتى العام 2040 على أقل تقدير، على الرغم من كثافة جهود البحث عن مصادر بديلة لهذه الطاقة الناضبة. 
بسبب هذه الأهمية، يحتدم الصراع باستمرار حول السيطرة على مصادر إنتاج النفط، وقد سارعت الشركات الأميركية والغربية للسيطرة على نفط دول أواسط آسيا، بعد انحلال الاتحاد السوفييتي، وسعت بقوة إلى السيطرة على نفط العراق، بعد الاحتلال الأميركي 2003، وتسعى الصين، على نحو حثيث، إلى وضع موطئ قدم لها في استثمارات النفط في أفريقيا وغيرها.
واليوم، نرى السياسة بوضوح في استخدام أسعار النفط للضغط على روسيا وإيران، اللتين تعتمدان على صادرات النفط مورداً رئيسياً من العملات الصعبة، فبعد أن كان سعر برميل النفط الخام يقارب الـ 115 دولاراً أميركياً، مطلع عام 2014، هبط إلى ما يقارب نصف هذا السعر مع نهايته، فأصاب إيران وروسيا في مقتل، فقد خسر الروبل الروسي نحو 45% من قيمته منذ مطلع 2014. هذا الهبوط ليس بسبب زيادة العرض، أو تراجع الطلب، بل بسبب التقصد في زيادة المعروض عن الطلب، لكي يهبط السعر، بينما يسهل التحكم بكمية المعروض، بحيث يحمي السعر ويحمي إيرادات المنتجين، لو أرادوا.

بسبب هذه الأهمية، سعت شركات النفط العملاقة، المملوكة من الدول الكبرى، إلى السيطرة على صناعة النفط من التنقيب والاستخراج، وحتى التسويق، مروراً بالتكرير. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، كانت شركات النفط العملاقة العائدة للدول الغربية تسيطر على 80% من احتياطيات النفط وإنتاجه في العالم، غير أن موجة التأميمات التي اجتاحت الدول المنتجة في العالم الثالث، في سبعينيات القرن الماضي، مستغلة المناخ السياسي الدولي الذي أحدثه تعدد القطبية، ووجود معسكر شرقي يدعم خطوات التأميم، ساعد على تغير هذه الصورة.
واليوم، تسيطر الدول الغربية الكبرى على أقل من 20% من احتياطي النفط العالمي، البالغ اليوم نحو 1200 مليار برميل، ولا تزيد حصة أكبر خمس شركات غربية عن 5% من هذا الاحتياطي الهائل (إكسون موبيل الأميركية - شل الهولندية البريطانية - بريتش بتروليوم البريطانية - شيفرون تكساكو الأميركية - توتال الفرنسية)، بينما باتت الشركات الوطنية تسيطر على 80% من احتياطي النفط العالمي، وتسيطر الشركات الخاصة الكبرى على أقل من 15% من الإنتاج، بينما تسيطر الشركات الوطنية على 70% منه، على الرغم من أن الدول الغربية تستهلك أكثر من 60% من إنتاج النفط في العالم، ما يسبب تناقضاً مزعجاً للدول المتقدمة، فأهم سلعة لديها يقع إنتاجها لدى دول أخرى.
لم يؤد هذا التحول في السيطرة، فقط، إلى ارتفاع أسعار النفط من أقل من 3 دولارات حتى بداية السبعينيات وحسب، وكان هذا في صالح الدول الغربية المستهلكة، إلى ما يزيد عن 100 دولار مطلع 2014، وهذا لصالح الدول المنتجة 100%، بل، أيضاً، جعل أهم مادة استراتيجية ليست تحت السيطرة المباشرة للدول الغربية الكبرى. وعلى الرغم من تسليم الدول الكبرى بهذه الحقيقة، فإنها تضع خطوطاً حمراء تجاه أي تقليص لتدفق النفط إلى أسواقها، وهي المستهلك الأكبر.
ولكي ندرك معنى هذه الخطوط الحمر، وندرك سياسات الدول الكبرى تجاه النفط وسياساتها تجاه مناطقنا، علينا أن نتصور الرئيس الأميركي، والإدارة الأميركية أو غيرها من إدارات البلدان الغربية الكبرى وقادتها، يقفون ليستمعوا إلى تقرير يقول:
لا يتوفر نفط وغاز كاف لتدوير عجلة الإنتاج، وتسيير الآلة العسكرية، وتلبية احتياجات الاستهلاك المحلي. وإن طوابير السيارات في المحطات تصبح أطول كل يوم، والناس ينتظرون ساعات ليتمكنوا من العودة من أماكن عملهم إلى منازلهم، ولا يوجد وقود كفاية للتدفئة، وقد خفضنا ساعات التدفئة، كما خفضنا عدد رحلات الطيران وعدد قطارات الأنفاق والقطارات للمسافات البعيدة، وسنبدأ بتقنين الكهرباء، ولا نستطيع تأمين وقود كاف لمكنتنا العسكرية، وشركاتنا تتكبد خسائر وهي تقلص إنتاجها وتسرح عمالها، وأصبحت معدلات البطالة 20%، ما زاد من معدلات الفقر في المجتمع ...... إلخ.
سماع مثل هذا التقرير سيدفع هذه الإدارات إلى الجنون، لكنه سيكون جنوناً متأخراً، ولكي لا يحدث هذا، تضع الدول الغربية الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة، قواعدها العسكرية قرب منابع النفط، وتفعل المستحيل، لكي لا تفقد السيطرة عليه. ونتذكر، هنا، أن الولايات المتحدة ردت على استخدام الدول العربية لسلاح النفط في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، على الرغم من أنه كان استخداماً محدوداً نسبياً، ردت بإنشاء قوات التدخل السريع في الخليج حينذاك.
هذا مفتاح يمكن على ضوئه أن نفهم سياسات الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة تجاه منطقتنا، وتجاه مناطق النفط في العالم، وهي ستبذل قصارى ما تستطيع، لمنع زعزعة استقرار مناطق إنتاج النفط. وسيبقى الأمر هكذا إلى أن تتراجع أهمية النفط بالنسبة لهم، عبر تمكّنهم من تطوير مصادر طاقة بديلة، وهم يعملون على هذا ليل نهار، ويستثمرون مئات مليارات الدولارات. وإن ألقينا نظرة على إحصاءات وكالة الطاقة الدولية 2014 لمصادر الطاقة بين 1973 و2012، نرى تراجع حصة النفط والغاز من 62.1% من مجمل مصادر الطاقة عام 1973 إلى 52.7% عام 2012، مع تقدم حصص المصادر الأخرى، مثل الفحم والطاقة النووية.
لكن، وعلى الرغم من تراجع حصة النفط والغاز، تبقى حصتهما تشكل أكثر من نصف مصادر الطاقة. ويبقى الشرق الأوسط المصدر الأهم للمصادر النفطية، ولن تستطيع الدول المتقدمة الاستغناء عن نفط منطقة الشرق الأوسط قبل 2040، على الرغم من أن إنتاج نفط الرمال الزيتية مرتفع التكاليف، وعلى الرغم من أن الاستثمار في التنقيب عن النفط وإنتاجه في أفريقيا ودول أواسط آسيا، وعلى الرغم من الاستثمار في الطاقات البديلة، مثل الرياح والشمس وغيرها.
لكن، بعد هذا التاريخ، أي بعد قرابة ربع قرن، ستخرج جميع الدول التي ستكون حينها معتمدة في اقتصادها على النفط والغاز بنسب كبيرة، ستخرج من المعادلة، وهذا هو التحدي الأكبر في العقدين المقبلين أمام هذه الدول، فإما أن تنجح في استخدام مواردها الحالية في التأسيس لقطاعات بديلة، أو أنها ستصبح على قارعة الأوتوستراد العالمي.