فاشل، فاسد، قاتل

28 ديسمبر 2014
+ الخط -
تشهد جدران في القاهرة، منذ صارت مساحة مفتوحة للتعبير عن الرأي السياسي، تحديداً بعد ثورة يناير 2011، جملة متكررة، مكوّنة من كلمتين، الأولى اسم رئيس الدولة، بغضّ النظر مَن هو، والثانية صفة "قاتل". حدث هذا مع حسني مبارك، في منتصف أيام التظاهر خلال الثورة الأولى، ثم تم استبدال اسم مبارك بالمجلس العسكري. وأحياناً، تم استخدام اسم طنطاوي، المشير السابق رئيس المجلس، ثم مرسي، الرئيس المدني الأول بعد الثورة، وحالياً، عبد الفتاح السيسي، المشير السابق، الرئيس الحالي. وفي كل المرات، كانت صفة "قاتل" تستخدم، وحدها دون غيرها، فالقتل، على ما يبدو، لا يزال مفزعاً، بحيث تصبح الكلمة هي الأقوى والأكثر تأثيراً في نفوس المصريين.

قبل شهر، قادتني الظروف إلى حضور جلسة محاكمة في محافظة سيناء، تابعت قضايا وأحكاماً. في أحدها، كان حكم بالسجن المشدد ثلاث سنوات، ضد شاب تهمته كتابة "سيسي قاتل" على جدار منزله، والأحراز المضبوطة معه: عبوة طلاء بخاخة، ذات لون أحمر. وتالياً، بينما كنت أعبر الشارع في وسط القاهرة، لمحت على جدار جانبي الجملة نفسها، ويبدو، من شكل الخط وأسلوب الكتابة، أنها كتبت بسرعة شديدة، حتى أن كلمة "قاتل"، على الجدار باتت أقرب إلى كلمة "فاشل". وقفت أمامها دقيقة، غارقاً في تأمل وتفكير. صفة الفشل هنا مجرد خطأ غير مقصود، لكنها تبدو مباشرة جداً. بدت الكلمة لي كأنها مانشيت صحيفة معارضة واسعة الانتشار، باللون الأحمر، والحجم الكبير، كأنها خبر، اكتشاف، معلومة جديدة مدهشة. صدمة مباشرة.

لماذا، إذن، تم تجاهل صفة الفشل، مرات ومرات، في كل مرة تُكتب فيها على الجدار عبارة مناهضة للحاكم؟ ويتم استبدالها مباشرة، بالصفة السهلة المعتادة (العادية بكل أسف) قاتل؟ هل الناس، في الشوارع والطرقات، يحتاجون إخبارهم أن الحاكم "قاتل"؟ وهل الناس، أنفسهم، لا زالوا بحاجة إلى حكم محكمة، ببراءة حاكم سابق، بتهمة قتل متظاهرين خرجوا للتظاهر ضده؟ في المقاهي، تسمع كلاماً يبيّن أن الناس متأكدة من أن الحاكم السابق، والأسبق، والحالي، وربما القادم، متورط في القتل مباشرة. لكن هذه المعلومة (المؤكدة؟) تبدو غير مهمة أو فارقة.

منطق الناس، كما فهمته، أن القتل مؤلم من دون شك، لكنه ليس سبباً كافياً للغضب، طالما كانت الضحية على مسافة بعيدة وكافية منهم. الحاكم يقتل فعلاً، لكنه يقتل أعداءه، ونحن لسنا على عداوة مباشرة معه، إذن، فالقتل بعيد عنا، لا يشغل بالنا كثيراً. سنغضب فقط، إن اقتربت دائرة القتل منا، سيكون هذا مزعجاً، وعادة ما يكتشفون متأخراً أن القبول بالقتل، من حيث المبدأ، يفقدهم القدرة على منع آلة القتل من الاقتراب منهم.

لكن، يتأثر هؤلاء، أنفسهم، جداً بمسألة "الفشل". تمسّهم مباشرة، فشل الحاكم/ السلطة/ الحكومة، يعني أن مكاسبهم اليومية المعتادة ستتأثر سلباً بشكل أو بآخر. دائرة الفشل أوسع من دائرة القتل. القتل يبدو منظماً، بخطة مسبقة، على عكس الفشل، الخارج عن السيطرة، الواسع المنتشر، لا يعرف الحدود، ولا يميز بين أعداء النظام وأحبابه. ثم إن العقل المصري، عادة، مشغول بنهاية الكلام عن أوله. تجده حين يطرح أمامه موضوع معقد ومتشابك، يسأل مباشرة عن "العمل؟"، "المطلوب؟"، "المهم؟". في قضية القتل، الموضوع معقد جداً، ومليء بحكايات وأساطير وعلامات استفهام، مَن أطلق الرصاص أولاً؟ هل حقاً استخدمت الشرطة الرصاص الحي؟ الاعتصام لم يكن سلمياً تماماً!، هكذا يفضوّن الاعتصامات في الدول الأجنبية (!) وما إلى ذلك من حديث الإعلام المصري الشيّق، وحيل الإلهاء وتشتيت الانتباه.

تبدو مواجهة الفشل، بالنسبة للمواطن المصري، مفهومة أكثر، بل ومطلوبة وضرورية، بحيث يبقى على قيد الحياة. فمصر، الدولة المحظوظة بجهاز إداري ضخم يضم سبعة ملايين موظف، قادرة على شل حياة المواطن بفشلها وفسادها. وللعجب، المواطن العادي، غير المسيّس، غير المنتمي لحزب أو جماعة، غير المصوّت في الانتخابات أصلاً، ولا المشغول بنتائجها، يربط بين فشل أصغر موظف حكومي ورأس الدولة مباشرة.

في العام الوحيد الذي حكم فيه محمد مرسي، كانت الجماهير غاضبة إلى أقصى درجة من تكرار انقطاع التيار الكهربائي في فصل الصيف. ارتبط انقطاع الكهرباء بدعاء شعبي بسيط "الله يخرب بيتك يا مرسي"، ولعلي أعتقد أن الجملة السابقة، هي ما جعلت إسقاطه سهلاً ليّناً مقبولاً لدى قطاعات واسعة من الجماهير، لا يعنيها تحديداً ما الذي جرى ليلة الاتحادية من اشتباك وسقوط قتلى، رائحة الدماء محدودة، لكن الجماهير منزعجة، بشكل مباشر، من رائحة الأطعمة الفاسدة في المنزل، نتيجة اختفاء التيار الكهربائي ساعات طويلة في أيام الصيف الحارة.

ثم، جاء بعد الفشل، الممثل في الجملة السابقة، عبارة مطاطة جداً، اسمها "أخونة الدولة"، وهي تقودنا إلى الفساد، الصفة الثانية التي غابت عن جدران القاهرة. والحديث عن فساد الحاكم المصري، ثروته، وظائف أبنائه، عائلته، سيارته، ثمن منزله، مرتبه الشهري، حديث مثير للغاية للجالسين على المقاهي في مصر. هذا ما بقي من حكم حسني مبارك الممتد ثلاثة عقود، وهذا ما بقي من حكاية محمد مرسي والإخوان المسلمين، وهذا ما سيبقى من الحكاية الحالية والحكايات التالية.

هذا الصراع الحالي، لو أنه كما أفهمه طويل ومستمر، ومتعدد الجولات، فإن الحاجة، الآن، إلى تحريك الجالسين على المقاهي، إلى مخاطبتهم بما يفهمونه ويطلبونه وما هو قادر على إثارة اهتمامهم. والواقع، أن ترتيب أولوياتهم الآن هي: فاشل/ فاسد/ قاتل.

لنعيد اكتشاف الحقائق، نظام مبارك فاشل، واستمر فشله فتحول إلى فساد، ولهذا سقط. وكذلك نظام مرسي، وبينهما مدة عاصرنا فيها فشل المجلس العسكري وفساده. هذه تهم مباشرة أكثر، قابلة للترجمة في حوادث يومية كثيرة، ولها أدلة واضحة حية. إن كانوا قد اعتادوا القتل، تقبّلوه، وجدوا له مبررات كافية، فلنحدثهم عن الفشل والفساد، إذن، ونرى.

E762D33E-480C-4DE4-AA38-1D5A45614F13
براء أشرف

كاتب ومنتج ومخرج أفلام وثائقية