عين العرب.. أجندات تتصارع وخاسر وحيد

07 أكتوبر 2014

حرس الحدود التركي يراقبون الاشتباكات في عين العرب(3 أكتوبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

لا شك أن الخاسر الوحيد من المعركة المحتدمة في مدينة عين العرب (كوباني) بين همج العصر "داعش" ووحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، أهلها السوريون، كرداً كانوا أم عرباً، الذين تجرعوا، كما الملايين قبلهم، مرارة التشرد واللجوء. ولا يخفى على أي مراقب تزاحم الإرادات الإقليمية والدولية وتضاربها في هذه الساحة الصغيرة بحجمها، المهمة بموقعها ورمزيتها.

لا تُبرأ تركيا من مسؤوليةٍ ما، فهي، على الأقل، راضية وفرحة بمشهد يتصارع فيه خصوم لها، ويُستنزفون ويفتكون ببعضهم، وتنتظر ساعة صفر اقترب موعدها لتتدخل عسكريًا وتظهر منقذاً ومخلصاً، ولكن، بما يتماشى مع فهمها لمتطلبات أمنها القومي. كما لا تُبرأ دول أخرى ضمن التحالف الدولي وخارجه، وظفت تشابكات المسألة الكردية، لمناكفة تركيا سياسيًا وأمنيًا، وعرقلة مساعيها لإنهاء الصراع المسلح مع حزب العمال الكردستاني.

شكل مشروع الإدارة الذاتيّة، والذي أعلن عنه أواخر عام 2013 في مدن سورية هي؛ القامشلي وعين العرب وعفرين، تقطنها أغلبية كرديّة، تهديدًا سياسيًا وأمنيا مباشرا لتركيا، كون حزب الاتحاد الديمقراطي، صاحب المشروع، يعد ذراعًا سياسية وعسكرية (وحدات الحماية الشعبية) لحزب العمال الكردستاني، إلا أن الضرر الأكبر كان لوحدة سورية ومستقبلها، فالإعلان عن كانتونات قومية، وتعيين حكام لها ومجالس لإدارتها لا يعد تجربة إدارة محلية، كما يدّعي يساريون سوريون سابحون في فلك هيئة التنسيق الوطنية، بل بذرة لمشروع انفصالي، ينفذه حزب الاتحاد الديمقراطي، وبموافقة ضمنيّة من النظام الذي مهد له الطريق، عندما سحب قواته من المناطق الكرديّة منذ أغسطس/آب 2012، وأوكل إدارتها للحزب.

يصعب علينا عند المقارنة بين تنظيم "داعش" وحزب الاتحاد الديمقراطي في السلوك والأهداف، والعناوين الكبرى، أن نجد فروقاً واختلافات جوهرية بينهما. فداعش، وكغيره من الحركات الجهادية، ركب موجة الثورة السورية، بعد انتقالها إلى الكفاح المسلح، واستغل عناوين "النصرة للمظلوم ودفع الصائل"، للاندماج طرفاً معترفاً به في معادلة الصراع القائم. ولم ينتظر طويلاً حتى باشر بمشروعه الخاص "الدولة الإسلامية"، فحارب الثوار، وحرّر المحرر، وأقام محاكمه، وألحق المناطق المغتصبة بخلافةٍ مزعومة. تتشابه مسيرة الاتحاد الديمقراطي مع داعش إلى درجة التطابق، إذ لم يشارك أيٌّ من منتسبيه، أو أنصاره، في حراك احتجاجي ثوري، عمّ المناطق الكرديّة، وقاده وأطره شباب كردي مثقف نشأ خارج الأحزاب التقليدية، والتي عانت، وما تزال، من أمراض مزمنة كالتوريث، وتجديد البيعة للزعيم، والانشقاقات، والمزاودات السياسيّة، والتبعية لمرجعيات خارجية (بارزانية – آبوجيية "أوجلان").
 
أنذاك، وبدلاً من تأييدها، قمع الاتحاد الديمقراطي الاحتجاجات السلمية، واعتقل الناشطين، واغتال قيادات شبابية، مثل مشعل تمو. كما توافق مع باقي الأحزاب الكردية التقليدية الأخرى (اندمجت في المجلس الوطني الكردي)، في مسعى إلى احتواء الحراك، وتقويض الأطر التنظيمية والتنسيقات الشبابية، ترغيباً أو ترهيباً. لم يكن ثمة تفسير منطقي لسلوك الأحزاب الكردية (تُعرف نفسها أحزاباً معارضة)، إلا في إطار خوفها من جيلٍ جديد هجر تقوقعها الفئوي وعناوينها القومية الرنانة؛ حق تقرير المصير، الفيدرالية والإدارة الذاتية الديمقراطية، كردستان الكبرى ..إلخ، والتحم مع الثورة، وتبنى شعاراتها الوطنية الجامعة. وما جمعة أزادي (20 مايو/أيار 2014) وجمعة الوفاء للانتفاضة الكردية (9 مارس/آذار 2012) إلا براهين وأدلة على تكامل وطنيٍ، أنتجته الثورة حينها، ودمرته الأحزاب الكردية التقليدية ومؤسسات المعارضة السوريّة، وبعض مشايخ الدين مثل عدنان العرعور.

بعد ذلك، تلاشى حراك الشباب الكردي، وطغى حراك القيادات الحزبية الكهلة. غابت الشعارات الوطنية، وحضرت الفئوية. انقسم الكرد بين مجلس وطني كرديّ ومجلس شعب غرب كردستان (يضم حزب الاتحاد الديمقراطي) على تمثيل "قضيتهم". لم تنفع جولات أربيل، وتدخل مسعود البرزاني، وتوقيع اتفاقيّة لتوحيد الجهود ضمن ما أطلق عليها "الهيئة الكردية المشتركة" في التقريب بينهما، وقادت المنافسة المحتدمة على سلطة وهمية إلى انقلاب الاتحاد الديمقراطي على اتفاقاته، وفرض بالقوة سطوته وسيطرته على المناطق ذات الأغلبية الكردية. لكن انتهاكاته وجرائمه، والتي وثقتها بيانات المنظمات الحقوقية والمؤسسات البحثية، وفي مقدمتها المركز الأوروبي للدراسات الكردية، لم تتوقف على الكرد، بل شملت العرب أيضًا.

ومنذ بداية عام 2014، بدأ الحزب حملة تهجير استهدفت العائلات العربية في أكثر من 18 قرية، وارتكب مسلحوه "الأسايش" مجازر عدة، كان جديدها في قريتي تل خليل والحاجية، جنوب مدينة القامشلي (14 سبتمبر/أيلول 2014)، عندما نفذوا إعدامات جماعية بحق 42 مدنياً، بينهم أطفال ونساء. عدا عن ذلك، استخدم الحزب وأنصاره خطابًا قوميًا فاشستياً متطرفاً ضد العرب القاطنين في المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية، فنعتهم بـ"البدو الهمج" تارة، وبـ"قطعان المستوطنين" تارة أخرى، ثم أجملهم بمفردة "التكفيريين"، بعد اشتداد الصراع مع "داعش" و"النصرة" على مصادر الطاقة ومناطق النفوذ، والذي انتهى بمأساة عين العرب الحالية.

أخيرًا، وعلى الرغم من أسبقيتها ومكانتها الرمزية في الثورة السوريّة، فإن عين العرب أو "كوباني"، كما يحب أن يسميها سكانها الأكراد، وقعت ضحية صراع الدواعش والآبوجيين وتشابكاته الإقليمية والدوليّة، وهو صراع لا يمت لسورية، بعربها وكردها، أو لثورتها بشيء، بل هو صراع أجندات خاصة غير وطنية.

026670C0-1C24-4095-BCE5-FC31C709547D
حمزة المصطفى

كاتب وباحث سوري في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وسكرتير تحرير مجلة سياسات عربية. ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من معهد الدوحة للدراسات العليا. صدر له كتاب "المجال العامّ الافتراضي في الثورة السورية: الخصائص، الاتجاهات، آليات صناعة الرأي العامّ".