17 تشرين .. الثورة العنيدة
حلّت الذكرى السنوية الأولى لاندلاع "ثورة 17 تشرين" في لبنان، والثورة لم تتوقّف ولم تنتهِ كما ظنّ بعضهم أو توهّموا، فعلى الرغم من أجواء فيروس كورونا المتفشي في لبنان بشكل كبير، بحيث تسجّل إحصاءات وزارة الصحّة يومياً أرقاماً قياسية تفوق الألف وخمسمائة إصابة تقريباً، وهو بالمناسبة رقم مرعب ومخيف للبنانيين؛ وعلى الرغم من حجم القلق والخوف والهواجس التي بات اللبنانيون مسكونين بها، خصوصاً لناحية انزلاق البلد نحو الحرب الأهلية، وهم قد عانوا منها خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين؛ وعلى الرغم من الضائقة المعيشية والحياتية التي يعيشونها، والتي باتت جزءاً من مادة إفقار اللبنانيين وإلهائهم عن قضاياهم المحقّة، بحيث تجاوز الدولار الأميركي عتبة التسعة آلاف ليرة؛ وعلى الرغم من الكم الهائل من التعبئة والحشد الطائفي والسياسي الذي تمارسه الطبقة الحاكمة، تارة باسم الصلاحيات، وتارة باسم حقوق الطائفة، وتارّة بأشكال أخرى مختلفة؛ وعلى الرغم من محاولات الاستغلال السياسي من بعض القوى السياسية لحراك اللبنانيين، فإنّهم أثبتوا، في الذكرى الأولى لحراكهم السلمي، أنّ "ثورتهم" مستمرّة، وأنّ مسيرتهم لاستبدال الطبقة السياسية متواصلة، لأنّهم فقدوا الثقة بها، فهي المسؤولة الأساسية عن حالة الفساد المستشرية، وعن كل الأوضاع التي وصلت إليها البلاد؛ وأنّ حراكهم يرفض الاستغلال الداخلي أو الخارجي، ويرمي إلى تصحيح مسار الأمور لإخراج البلد من هذا النفق المظلم الذي يعيش فيه، ومن الوصول إلى حالة الانهيار الكامل الذي يجرى الحديث عنه والتحذير منه.
أول ما تحتاجه الثورة في لبنان أن ترفض وتمنع أي استغلال ومن أي نوعٍ كان، سواء من الداخل، أي من السلطة أو أحزابها
لقد نزل اللبنانيون في السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي مرّة جديدة إلى الشارع، إلى الساحات، إلى منصّات التواصل الاجتماعي، إلى كل مكانٍ يمكن أن يطلقوا منه صرخة مدوّية في هذه البرّية للقول للجميع: كفى. آن أوان رحيلكم. آن أوان انتهاء اللعبة وإنقاذ البلد مما هو فيه. لقد استردّوا، ومن جديد، بعض الاعتبار للأيام الأولى من ثورتهم في العام الماضي، عندما خرجوا من أسوار الطائفية والأحزاب السياسية والمناطقية والمرجعية، وكل هذه المفاهيم التي كرّست الفرقة بينهم، وأنتجت الخوف والقلق من بعضهم، وصنعت الهواجس لدى الجميع، حتى بات هناك من يجاهر، بين حين وآخر، بالقول: لكم لبنانكم ولنا لبناننا. لقد أعاد تحرّك السابع عشر من تشرين الروح لروحية "ثورة 17 تشرين"، عندما التقت الساحات مع بعضها بسلاسل بشريّة من شمال لبنان إلى جنوبه. لقد أثبتت هذه الثورة أنّها عنيدة فعلاً، وأنّها مصرّة على التغيير والإنقاذ، وأنّها لا تقلّ قوّة وعناداً عن هذا النظام الطائفي المستعصي على الإصلاح والتغيير، غير أنّ هذه الثورة، العنيدة المستمرة، والتي باتت تشكّل أملَ قسمٍ كبيرٍ من اللبنانيين للخروج من هذا التيه، تحتاج حتى تحقّق أهدافها إلى بعض الأمور، وإلّا فإنّ النظام الطائفي يستعصي عليها، ويحرفها من جديد عن مسارها الذي بدأت من أجله.
أول ما تحتاجه الثورة أن ترفض وتمنع أي استغلال ومن أي نوعٍ كان، سواء من الداخل، أي من السلطة أو أحزابها التي غالباً ما تسارع إلى سرقة الإنجازات وتجييرها، أو من الخارج الذي تعمل سفاراته لاستغلال أي تحرّك شعبي سلمي في أي مكان، وإدخاله من ضمن أدوات الضغط التي تستخدمها في صراعاتها المختلفة.
الأمر الثاني الذي تحتاجه الثورة هو الثبات على مبدأ الخروج من الشرنقات والمربعات الطائفية والمذهبية والحزبية والمناطقية الضيّقة، فالطبقة السياسية الفاسدة التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليها لم يحمها إلّا تلك المربعات، عندما كانت، وما زالت، تستغل الطوائف والمذاهب للدفاع، في الحقيقة، عن نفسها وفسادها، وليس عن حقوق أبناء تلك الطوائف، كما تدّعي وتزعم. أهم مقتل يمكن أن تُصاب به الثورة هو في عودة أبنائها أو المنخرطين فيها إلى مربع الطائفية والمذهبية والحزبية الضيّقة.
لا يريدون أن ينتقل لبنان من تحت سلطة فاسدة مستبدّة إلى تحت سلطة أخرى مشابهة، أو أن يكون ألعوبة
الأمر الثالث والذي لا يقلّ أهمية، أنّه لم يعد من الجائز بعد اليوم أن يبقى هذا الحراك السلمي الحضاري من دون قيادة واضحة وغير موثوق بها، ومن دون برنامج واضح لكل اللبنانيين. الضبابية تثير الشكوك وتخلق الهواجس. والفرقة تزيد التشتت، وتفتح الباب أمام المصطادين بالماء العكر، فلا بدّ من وضوح برنامج وقيادة، وإلّا من حقّ اللبنانيين، أو بعضهم على الأقل، أن يسأل ويتفحّص، لأنّهم ببساطة لا يريدون أن ينتقل من تحت سلطة فاسدة مستبدّة إلى تحت سلطة أخرى مشابهة، أو أن يكون ألعوبةً في أيدٍ غير معروفة، تستخدمه لتحقيق غايات ومآرب خاصة.
أثبت حراك 17 تشرين 2020 عناد ثورة 17 تشرين 2019 وإصرارها، ويبقى أن يثمر هذا العناد والإصرار إصلاحاً حقيقياً، ينقل لبنان ليكون دولة قانون وعدالة ومؤسسات.