لو تشاهدون فيلم "رجال أحرار"

16 يناير 2015

ميشيل لوندال في دور بن غبريت في "رجال أحرار"

+ الخط -

الحسن باثيلي، مسلم من مالي (24 عاماً)، يعمل في متجر الأطعمة اليهودية في باريس الذي تعرّض لاعتداء، الأسبوع الماضي، احتجز مقترفه، الفرنسي المالي (أو السنغالي)، الداعشي المسلم، أحمد كوليباني، من في المتجر رهائن، ثم قتل أربعةً منهم، قبل أن تتمكّن الشرطة من قتله وتحرير المكان. في الأثناء، استطاع باثيلي إنقاذ خمسة عشر من الزبائن اليهود، بأن أنزلهم إلى طابقٍ سفلي للمتجر، ووضعهم في غرفة تبريد، وقطع عنها الكهرباء، وطلب منهم الصمت التام، فنجوا. ولا حاجة لتأكيد أن الإسلام في مدارك هذا الشاب غير الذي كان يتوهّمه ويمارسه كوليبالي. إنه بالضبط الإسلام الذي تحلّى به مؤسس مسجد باريس ومديره وإمامه في الأربعينيات من القرن الماضي، الجزائري الشيخ قدور بن غبريت، والذي أنقذ مئات اليهود في فرنسا إبّان الاحتلال النازي، بإعطائهم وثائق وهوياتٍ تعدّهم مسلمين، فحماهم من جرّهم إلى المحرقة، وساعد في تأمين هروب بعضهم من ملاحقات الألمان وحكومة فيشي العميلة.
وصفت وسائل إعلام فرنسية وغربية (وإسرائيلية) الحسن باثيلي بالبطل، وما كنّا، لولا احتفائها به، لنعرف مأثرته الحميدة، والتي يُؤمل أن تساعد في تعزيز صورةٍ للمسلمين بين الفرنسيين مغايرةٍ لما أحدثتها، ربما، جريمتا المتجر و"شارلي إيبدو". وما كنّا لنعرف مأثرة الشيخ بن غبريت، لولا فيلم "رجال أحرار" بالغ الإتقان، والذي شوهد في فرنسا وأميركا وعدة دول، واستحقّ مخرجه المغربي، إسماعيل فرّوخي، في دورة مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي لعام 2011، جائزة أفضل مخرج عربي. وأظنني، كما كثيرين غيري ممّن شاهدوا الفيلم، لا أجد حرجاً في القول إنني لم أكن أعرف شيئاً عن تلك "الحكاية المجهولة والمهمة من التاريخ الحديث"، بتعبير لجنة التحكيم في المهرجان، وهي حكاية تتعلّق بمسلمين وعرب ويهود، أي بنا تماماً، وتتصل بالذي نُغالبه من خرابٍ مريعٍ في صورتنا. وتعرّفنا مطالعاتٌ عن بن غبريت بأنه عمل دبلوماسياً مغربياً، وهو الجزائري (!)، وأنه التقى الزعيم الفلسطيني، الحاج أمين الحسيني. 
كأنّ الحسن باثيلي، في عمله في متجر يهودي، ثم في إنقاذه يهوداً من مقتلة كوليباني، ينضم بطلاً جديداً في فيلم إسماعيل فرّوخي، الفرنسي اللغة والإنتاج، والذي كان أداء الممثل الفرنسي، ميشيل لوندال، فيه لدور الشيخ بن غبريت، جميلاً. ولمّا كان الشاب الأفريقي، باثيلي، عاملاً مهاجراً بسيط الحال، فإنه كما الشاب الجزائري الذي يقوم "رجال أحرار" على حكايته، مهاجراً يتاجر في السوق السوداء، وتجنّده الشرطة الفرنسية جاسوساً على مسجد باريس، لكنه يصبح بين مقاومي الاحتلال النازي، ويساعد في إنقاذ يهود، بينهم طفلتان شقيقتان. ويرتبط بصداقة مع مواطنه المغني اليهودي، سليم الهلالي. وفي مسار الفيلم الشائق، تحضر الموسيقى الشعبية العربية والأندلسية في تلك السنوات البعيدة. يطارد الألمان المحتلون الهلالي، ثم ينجو بفضل بن غبريت، عندما يضلّلهم بوجود قبر لوالد هذا المغني اليهودي في مدفن للمسلمين.
هي دعوةٌ، هنا، إلى استعادة فيلم وفيٍّ للشروط الجمالية للسينما، بمشاهدته مجدداً في فرنسا ومطارح أخرى، وفي بلادنا العربية التي لم تنتبه مؤسساتٌ ثقافية فيها إليه. إنه فيلم يرمينا بالحقيقة المؤكدة عن مسافةٍ ثقافيةٍ بعيدة، تفصلنا بين زمن انخراط مغاربيين مسلمين، كانوا عمالاً في فرنسا، في المقاومة ضد المحتل النازي، وانتساب مسلمين إلى تكويناتٍ شبحية، تقتل في فرنسا وغيرها، مدّعية حماية دينها في جرائمها هذه. وليس مستبعداً أن تغري بادرة الحسن باثيلي مخيّلة سينمائي حاذق، فينجز فيلماً عنه وعنها، قد يكون رائقاً، وقد لا يكون، لكن المؤكد أن إيقاعاتٍ كانت في زمن قدور بن غبريت ستغيب عنه، فالصدع التاريخي والثقافي واسع بينها وبين زمن أحمد كوليباني. ذكّرتنا بها غرفة تبريدٍ في متجر يهودي باريسي. 

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.