من المغرب العربي الكبير إلى المغرب الإسلامي الصغير
أحدثت تصريحات رئيس حركة النهضة (إسلامي) في تونس، راشد الغنوشي، رجّة كبيرة في أوساط مغاربية متعدّدة، هالها أنه يدعو إلى "ائتلاف ثلاثي بين تونس والجزائر وليبيا"، نواة مُحيَنة (معدّلة) للحلم المغاربي الكبير الذي انبنى على خماسية تضم المغرب وموريتانيا علاوة على هذا الثلاثي. وجاءت الدعوة في وقتٍ تعيش فيها المنطقة على صفيح ساخن، مفتوح على كل التوقعات من جهة، وتسير كل دولة من الدول المذكورة فيه، حسب مدار سياسي وإقليمي متراكب ومتشابك بالنسبة لكل واحدة منها، من جهة ثانية. ومما زاد من هول التأثير، التقاط إسلامي آخر، من داخل الجزائر، رئيس حركة مجتمع السلم (حمس)، عبد الرزاق مقري، هذا النداء، فدعا إلى التنفيذ الفوري، أو على الأقل الانحياز السريع لأطروحة المغرب الثلاثي، لعزل المغرب، ودفعه بعيدا عن المغرب الكبير، بدعوى استئناف العلاقات مع إسرائيل.
ومن حيث التعليل العابر أو المحايد، تبدو الفكرة ظاهريا غير مرفوضة، إذا ما قسناها على الماضي الخمسيني من القرن المنصرم، أو عطفناها على تجارب مغرية بالتقليد. ونقصد بالماضي القريب، مغاربيا، انطلاق اتحادات وخطوات وحدوية كثيرة، ذات مقاصد وجودية، من قاعدة ثلاثية تضم تونس والمغرب والجزائر، عوض ليبيا. أولى تلك الخطوات ما سمي، في 1927، ميلاد جمعية شمال أفريقيا للطلبة المسلمين، وهي انطلقت في فرنسا التي كانت الدولة المستعمرة للأقطار المغربية الثلاثة. وفي عاصمتها رأت النور جمعية طلابية، وحاضنة مدنية للفكرة المغاربية، سرعان ما برز من بين مؤسسيها ورؤسائها سياسيون كبار، من المغرب وتونس والجزائر، ما حوّلها إلى مشتل مغاربي لتخريج الأطر الوطنية التحرّرية، ذات الانتماء المعلن إلى المغرب الكبير، منهم صالح بن يوسف، أحد أبرز قادة الحركة الوطنية التونسية، والأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد، وأحمد بلافريج من وزراء أول حكومة مستقلة في المغرب وقيادي في حزب الاستقلال، ومحمد الفاسي، وعمر بنجلون، القيادي التقدّمي الذي اغتالته في 1975 تيارات دينية. وعن الجزائر، مالك بن نبي، وأحمد فرنسيس رفيق فرحات عباس بعد مؤتمر الصومام، وعضو المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي عين أمينا دائما في مؤتمر طنجة لوحدة المغرب العربي في 1958. والفارق القوي بين التجربة في ميدان التاريخ وفي حاضر الدعوة أن الأقطار الثلاثة كانت تستعمرها فرنسا، وكان مجال تحرّكها هو المجال الفرنكفوني، في حين كانت ليبيا تخضع للاستعمار الفاشي الإيطالي. أما موريتانيا فلم تكن موجودة وقتها.
ما نعجز عن تحقيقه مع دولة هزّازة لا يمكن أن يتحقق بثلاث دول هزّازة، مهما كانت بلاغة الأمل وإعجاز الوحدة وحسن النية
التجربة الثانية التي لا تخلو من دروس هي مكتب المغرب العربي في القاهرة، والتي تمت تحت رئاسة الأمين العام لجامعة الدول العربية، عبد الرحمن عزام، في نهاية الأربعينيات، وترأسه القائد الأسطوري لثورة الريف، محمد بن عبد الكريم الخطابي، إلى جانب قادة كبار من المغرب الكبير، من بينهم الفقيه عبد الخالق الطريس والزعيم علال الفاسي من المغرب، ومحمد بن بلة، ثم محمد خيضر وحسين أيت أحمد من الجزائر. وكان الهدف توحيد الجهود من أجل تحرير المغرب الكبير، بالسير نحو إنشاء جيش تحرير المغرب العربي الكبير، بقيادة من صاحب معركة أنوال (المغربية) الشهيرة.
لا يخلو إغراء التاريخ من شاعرية في المقارنة، غير أن ما يجب تثبيته هنا أن هذا المشترك البعيد لا يبدو أنه هو الذي يجرّ إليه العقل الإسلامي في القُطرين المغربيين، تونس والجزائر. يبدو أن هناك محاولة الاقتراب من تجربة البينيلوكس، (benelux)، والتي تضم بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ التي كانت اللبنة الأولى في بناء أوروبا، وهي ثلاث دول تجتمع في فضاء مشترك، ولها حدود جمركية موحدة، سهلت قاعدة انطلاق التوحيد الأوروبي في غياب دولتين كبيرتين تقودانه حاليا، فرنسا وألمانيا.
بيد أن المقارنة تشكو من مثالب ثلاثة لا يمكن القفز عليها: الدول الأوروبية التي شكلت قاعدة تجسيد الحلم الأوروبي الثلاثي، كانت قد خرجت للتو من الحرب العالمية الثانية، وهو وضعٌ قد نشبهه بالربيع العربي، بالنسبة لتونس وليبيا على درجة أقل. أما بالنسبة للوضع في الجزائر فلا يقدم أي باب نحو الحل، لا على الطريقة التونسية، ولا الليبية، لا قدر الله. الدول الأوروبية الثلاث كانت ديمقراطية قبل الحرب، واستأنفت ديمقراطيتها وتعدّديتها بدون إعادة بناء ثقافية ومؤسساتية ودستورية كبرى. في حين أن دول المغرب الثلاث الواردة في مقترح راشد الغنوشي واحدة منها تشكو مخاضاتٍ بعد الثورة، بصعوبةٍ لا تخفى على أحد واستقرار هش للغاية. والثانية لم تجد بعد لحمتها الوطنية المبتغاة، لكي تفكر في إعادة بناء تكتل أكبر من دولتها. والثالثة، وهي الجزائر، لم تستطع بعد أن تنجح انتقالها، بعد أن كانت قد أضاعت فرصتين لربيع سابق، ربيع بداية التسعينيات من القرن الماضي الذي أعقب سقوط المعسكر الشرقي الذي أعطى ما أعطاه من نتائج في ليبيا، وما زالت احتمالاته الصعبة تخيّم على الجزائر التي تأخرت عنهما معا بعشر سنوات. إن محاولة بناء تكتل بحجم المغرب الثلاثي المقترح لا يمكن أن يسعف العقل في التفكير فيه والدفاع عنه، في هذه الحالة، إذ أن ما نعجز عن تحقيقه مع دولة هزّازة لا يمكن أن يتحقق بثلاث دول هزّازة، مهما كانت بلاغة الأمل وإعجاز الوحدة وحسن النية.
عاشت أجيال المغرب الكبير قطيعة أولى، تحت هدف أسمى، هو النهضة والخروج من سؤال التأخر التاريخي
لعل الأبرز الذي سيتولاه الفكر والعقل المغاربيان في المستقبل أن القطيعة الرابعة، لدى النخبة في الدول الشمال أفريقية لم تتحقق، على الرغم من كل الدعوات والتطلعات، إلا في صورة ضعيفة، إن لم نقل باهتة، فقط أن القطيعة التي كان من المنتظر أن يحققها الإسلاميون في المغرب الكبير جاءت أقل بكثير من سقف التاريخ، فقد عاشت أجيال المغرب الكبير قطيعة أولى، تحت هدف أسمى، هو النهضة والخروج من سؤال التأخر التاريخي. وكان رواد هذه القطيعة علماء وفقهاء وزعماء النهضة من تأثيرات مغربية ومشرقية. ثم أعقبتها قطيعة أخرى، انتقلت بالسؤال من منطق الإصلاح إلى مرتبة التحرّر، وكيفية بناء الحرية في الفضاء المشترك، وبأدوات مشتركة قدر المستطاع. ثم جاءت القطيعة التي أعقبت ذلك، بكل آلامها وعقباتها، والتي كرّسها سؤال: كيف نبني الدولة الوطنية الديمقراطية، القوية والعادلة. وقد عاشت دول المغرب الكبير كل هذه القطائع بألم وقسوة، لكن بوضوح كبير في الهدف المغاربي، على الرغم من اقترابه من دائرة المستحيل. وكان المتوقع أن سؤال محاربة الفساد وبناء الديمقراطية سيجد في الصوت الإسلاموي، صوت الجنوب بلغة فرانسوا بورغا، التعبير عنه بأدوات التحليل النابعة من عمق الصرخات الشعبية التي أطّرت الشارع المغاربي. ولكن يبدو أن جزءا من هذا الصوت قد تم "تجبيره" لفائدة الأنظمة التي تعيد "رسملته" لفائدة رهاناتٍ قطريةٍ ضيقة محكومة بمنطق الصراع.
لقد تقزّمت فكرة الأمة، إلى أن أصبحت تابعة لفكرة الدولة القُطرية، وأقل من مغرب عربي كبير. وإذا كان من التاريخي الإيجابي أن يتحدّث الإسلاميون في تونس والجزائر من داخل منطقة الدولة، فإن من غير المقبول أن تنحصر مهامها في مواجهة دولةٍ أخرى، لعرقلة فكرة منتجة تاريخيا وشعوريا وثقافيا وجغرافيا واقتصاديا، من قبيل فكرة المغرب الكبير.