أحلام اليقظة الثورية
منذ بداية الثورات العربية في عام 2011، سادت الأحلام الثورية التي انقلبت إلى كوابيس مع مرور الوقت وقيام الثورات المضادّة التي أجهضت كل ما اعتُبر منجزاتٍ تحقّقت بفعل الغضبة الجماهيرية في عدة دول عربية. اليوم، وبعد أكثر من 12 عاماً من انطلاق "الربيع العربي"، لا تزال أحلام اليقظة هذه تراود كثيرين مؤمنين بقدرة الاحتجاجات على إحداث التغيير المُراد، لجهة إسقاط الأنظمة أو تحقيق العدالة الاجتماعية أو نيل ما تيسّر من حرّيات وديمقراطية تؤسّس لتداول سلمي للسلطات.
مع ثورتي تونس ومصر، وُضعت سيناريوهات وردية لما ستؤول إليه الحالة العربية، والتحوّل الديمقراطي الذي قد تشهده خلال سنوات، إلا أن السنوات أثبتت أن كل هذه السيناريوهات لا تمتّ إلى الواقع بصلة بفعل الحسابات المعقدة، إقليمياً ودولياً، والتي يبدو أنها لا تفضّل أن تتوغّل الديمقراطية في المنطقة العربية. ومع سورية، كانت السيناريوهات أكبر وأعقد، وجرى التفاعل مع كل تصريح كان يصدُر عن مسؤولين دوليين أو إقليميين، وربما هذا ما زاد من ورطة السوريين على مدى العقد الماضي، فتصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أكثر من عشر سنوات، كانت توحي بتدخّل عسكري تركي قريب لحماية السوريين من بطش النظام، وهو ما حفّز سوريين كثيرين على الانتفاض في وجه النظام، معتمدين على ما ظنّوا أنه سند تركي مبني على التهديدات الكثيرة التي دأب أردوغان على إطلاقها.
مع الوقت، اتّضح أن مساحة التحرّك التركي محدودة على الساحة السورية، وأن الاستراتيجية التركية لم تكن مبنيةً على أكثر من حماية الحدود من الفصائل الكردية الفاعلة على الأراضي السورية، وإقامة ما يمكن تسميتها منطقة آمنة، تم إنشاؤها جزئياً. حتى الحضن الذي شكّلته تركيا منذ بداية الثورة للاجئين السوريين تحوّل، مع الوقت، إلى كابوس يعيشه السوريون حالياً في إسطنبول وغيرها من المدن التركية.
الأمر نفسه بالنسبة إلى حجم التدخل الأميركي في دول الثورات العربية عموماً، وسورية تحديداً. على سبيل المثال، أطلق الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، مجموعة من التهديدات بعد مجزرة الغوطة، والتي استخدم فيها النظام السوري السلاح الكيماوي ضد المدنيين. حينها، راودت كثيرين، سوريين وغير سوريين مؤيدين للثورة، أحلام يقظة عن حجم التدخّل الأميركي المرتقب وقوته، وتأثيراته لجهة إسقاط النظام، من دون الأخذ بالاعتبار حساسية الانخراط الأميركي الكامل في سورية، وحسابات الوجودين، الروسي والإيراني، والطبيعة الجيوسياسية السورية بحكم وجودها إلى جانب إسرائيل، الأمر الذي جعل "الردّ الأميركي" يقتصر على غاراتٍ محدودة، مع إبرام اتفاق أميركي روسي على تخلي النظام السوري عن أسلحته الكيماوية، وهو ما لم يحدُث.
مناسبة استعادة هذه المعطيات اليوم عودة "أحلام اليقظة الثورية" مع التصعيد الأردني ضد تهريب المخدّرات من الأراضي السورية، والتلويح بخياراتٍ غير سياسية للتعاطي مع الأمر، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بعد إسقاط الجيش الأردني طائرتين مسيّرتين تحملان حبوب الكبتاغون. التصريح الأردني دفع الكثير من الناشطين السوريين إلى البدء برسم سيناريوهاتٍ لما يمكن للأردن أن يقوم به، وبعضهم ذهب بعيداً بالحديث عن احتمال قيام الأردن بإنشاء "منطقة آمنة" في الجنوب السوري، على غرار ما أنشأته تركيا في الشمال، مستفيدة من الحراك المستمرّ في السويداء، والذي قد يسهل إلى حد ما المهمّة الأردنية.
سيناريوهات كهذه، أو أحلام، لا تمت إلى الواقع بصلة، خصوصاً بالنسبة إلى مساحة التحرّك المتاحة للأردن في سورية، إضافة إلى قدرة الأردن الفعلية على تنفيذ أمر كهذا يتطلب معطيات لوجستية ومادية قد لا تكون متاحة لعمّان، فضلاً عن حسابات السياسة والمصالح الإقليمية والدولية ووجود قوات موالية لروسيا في الجنوب السوري.
تجارب السنوات الماضية لا بد أن تؤخذ في الاعتبار لضبط التحليل السياسي والعسكري، السوري تحديداً، فالمغالاة في التوقّعات ستدفع نحو الاصطدام مجدّداً بالواقع المرّ.