يوم اقتحم الشيخ إمام كلية الهندسة

09 أكتوبر 2022
+ الخط -

يُنسَب إلى الرئيس جمال عبد الناصر أنه برّر الهزيمة أمام إسرائيل، سنة 1967، بقوله: قواتُنا المقاتلة توقعتْ أن يبدأ العدو هجومَه من الشرق، ولكنه بدأه من الغرب. هذا أمرٌ لا يُصدّق، فكأنه يلوم العدو الصهيوني لأنه لم يلتزم باتجاهات الهجوم المتعارف عليها دولياً! وقد زاد، رحمه الله، في الطنبور وتراً، حينما خطب قائلاً إنه سيتحمّل مسؤولية ما جرى (الهزيمة)، ويتنحّى عن الحكم، ما يوحي بأن مَن تسبب بالهزيمة شخصٌ غيره، فتطوّع هو لحملها بطريقة الشاعر طرفة بن العبد الذي سمع قومه يتساءلون: مَن فتى؟ فخالَ أنه المعنيُّ، فلم يكسل ولم يتبلّد.

يروي علاء الأسواني، في إحدى ندواته، حادثة طريفة جرت في أيام الرئيس أنور السادات: أن النظام الأمني الخاص بالسادات كان يتضايق من نشاط الشاعر أحمد فؤاد نجم، والملحن المغني الشيخ إمام، اللذين كانا ينشطان على مدرّجات الجامعة بشكل خاص، ويعبئان الطلبة بالقيم الثورية التي يؤمنان بها. اعتقل الرجلان، ذات يوم من سنة 1977، وقُدّما إلى النائب العام، بتهمة اقتحام كلية الهندسة بجامعة عين شمس بالقوة. لم يكن النائب العام المكلف بهذه القضية يعرف أن الشيخ إمام فاقد البصر، لذا فوجئ عندما رأى شخصاً يسحبه من يده لئلا يتعثر، ومع ذلك سأله: ماذا تقول في التهمة الموجهة إليك؛ وهي اقتحام مبنى كلية الهندسة بجامعة عين شمس بالقوة؟

ويبدو أن الأمور الطريفة تأبى إلا أن تأتي في طريق الشاعر أحمد فؤاد نجم.. روى، في مقابلة معه سنة 2011، أنه زار دمشق، أيام حافظ الأسد، وتزامنت زيارته مع يوم كانت فيه سورية تشهد واحدةً من حالات الهَبَل السياسي الهستيري التي تتزامن مع الاستفتاء الشعبي لتجديد حكم حافظ الأسد سبع سنوات مقبلة. وقتها يستحيل أن يمرّ الإنسان بساحة عامة ولا يجدها مزدحمةً بالطبّالين والزمّارين والدبّيكة والنخيخة والمزغردات، ولا يبقى في البلاد حائط، أو عمود كهرباء، أو واجهة مبنى، أو شريط غسيل، إلا وتعلّق عليه صورة أو أكثر لحافظ الأسد، مع ما لا يُحسَب من الأعلام واللافتات التي تعبر عن حبّ الجماهير هذا القائد، وافتدائه بالأرواح.. والغريب في الأمر أن هؤلاء المطبّلين لا يدعون المواطنين إلى الاستفتاء بـ "نعم لحافظ"، فهذا مفروغٌ منه، وسوف يُنتخَب، وينجح بنسبة "التسعات بالمئة" رغماً عن الأنوف والخياشيم، بدليل أن ضابطاً برتبة نقيب فقد عقله، وسُرّح من الجيش، لأنه تحايل على ضبّاط قطعته العسكرية، وتظاهر بأنه لن ينتخب إلا إذا أحضروا له دبوساً يبخش به إصبعه، ويبايع القائد بالدم، وكان قد خبأ ورقة فيها (لا) تحت ورقة (نعم) المغمّسة بالدم، ودحش الورقتين في الصندوق، وفي أثناء الفرز اكتشفت ورقة الـ لا، وعينك وقتها لا ترى إلا النور، فوالله لو أن القوات البرّية الإسرائيلية توغلت ضمن الأراضي السورية، حتى أصبحت على مشارف العاصمة، لكان أهون على ضباط القطعة العسكرية من أن يسجل في قوائم فرز الأصوات الخاصة بقطعتهم وجود ورقة مكتوب عليها "لا لحافظ".. استنفرت قوات الأمن، والجيش النظامي، والجيش الشعبي الذي يقوده الروائي محمد إبراهيم العلي، وربما استعانوا ببعض المخابرات العالمية، كالروسية، والأميركية، والإسرائيلية، وتحوّل سجن الثكنة إلى ما يشبه أقبية المخابرات، فلم يَسلم من الضرب والتعذيب حتى الضباط المتطوعون، إلى أن عرفوا، أخيراً، أن المجرم الحقير الذي سوّلت له نفسه أن يقول لا لذلك القائد التاريخي هو ذلك النقيب..

.. نعود إلى أحمد فؤاد نجم الذي كان يتجوّل في دمشق، وعيناه تتنقلان من لافتة إلى أخرى؛ ورأى لافتة معلقة على واجهة مبنى كبير، كتبت عليها عبارة: الصمّ البكم يقولون "نعم لقائد المسيرة". فالتفت إلى سائق التكسي، وسأله: دُوْلْ بيقولوا نعم للقائد،.. ازّاي؟

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...