يوصون في مصر بتلفزيون للأطفال بالعامية
عندما يُطنِب مجتمعٌ ما، نخبُه وتمثيلاتُه في التعليم والإعلام والفضاء السياسي، في الحديث في موضوعة هويّته، وبإلحاحٍ واسترسال، فهذا شاهدٌ على أزمةٍ يعبُر بها هذا المجتمع، وعلى أن اختلالا عميقا في أداء صنّاع السياسات الإعلامية والثقافية والتعليمية في إشاعة إحساسٍ مجتمعيٍّ عام بهويةٍ جامعةٍ مؤكَّدةٍ ومركّبةٍ ومنفتحة. وللتخصيص هنا، ليست مصر في حاجةٍ إلى كلامٍ كثير عن هويتها، ولا إلى الثرثرة الاستعراضية في التأكيد على هذه الهوية وتنوّع مشمولاتها، مع القول، في الوقت نفسه، إن أيّ "استراتيجياتٍ" أو سياساتٍ أو خططٍ توضَع في هذا الأمر، لتعزيز الهوية المصرية الوطنية على ما يقال عادةً، لا يمكنها إلا أن تعبُر من البديهيّ إلى المستجدّ موضوع النقاش العام، الراهن أو الطارئ أو المطروح. وأول هذا البديهيّ أن تعزيز اللغة العربية (اللغة الرسمية كما ينصّ الدستور) وحمايتها وسلامتها في الفضاء العام أمرٌ مركزي، لا يجوز التهاوُن والتسامح بشأنه.
مناسبة المجيء هنا على ما انكتَب أعلاه ما صودف في واحدةٍ من "توصيات لجان ومجلس أمناء الحوار الوطني ... المرحلة الأولى" في مصر، وذلك بعد جولات نقاشٍ في جلسات استمرّت أسابيع، ضمن "الحوار الوطني ... الطريق نحو الجمهورية الجديدة ... مساحات مشتركة". وبعيدا عن رأيٍ وجيهٍ يذهب إلى أن هذا كله مُصطَنع، وأن مؤسّساتٍ أخرى، تشريعية وتنفيذية وإدارية، في الدولة والمجتمع، منوط بها صياغةُ سياساتٍ وخياراتٍ وطنيةٍ في الشؤون التي أشغل بها هذا الحوار نفسَه، والذي انعقد بطلبٍ من الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعيدا عن هذا، صودف في هذه التوصيات أن شيئا منها أنجزتْه "لجنة الثقافة والهوية الوطنية"، مخصوصٌ بقضية "ترسيخ الهوية الوطنية والحفاظ عليها"، ويضجّ بحزمةٍ من ينبَغيّاتٍ تقليديةٍ، ذات سمتٍ إنشائيٍّ مكرور، لطالما عوين وقُرئ في بيانات لجان وخطط مجالس مختصّة وتوصيات مؤتمراتٍ بلا عدد لمثقفين وإعلاميين حكوميين وغير حكوميين. ولمّا تقرأ هذه التوصيات تلقاك تتحمّس لكثيرٍ منها، وترى وجوب مساندتها، غير أنك أيضا ستعجََب من مقادير الأوهام التي استبدّت بأفهام الذين كتبوها، وهم يسترسلون بمجانيّةٍ ظاهرةٍ في كتابة كلامٍ لا يتوفّر على سُبل تنزيله إلى الواقع وأدوات الأخذ به، وإنْ يتعلق الأمر بمهمّات وزارات التعليم ومؤسّساته وهيئاته الحكومية والأهلية، خذ مثلا "ترسيخ القيم الإنسانية كنمط حياة للمصريين"، و"تعزيز ثقافة نبذ العنف وخطابات الكراهية والتوعية المستمرّة بأخطارهم" (يحتاج الذين كتبوا التوصيات دورة تأهيليّة لتدريبهم على الصياغات الأفضل والأصحّ).
يبعث على أسىً كثير أن الذين خاضوا في هذه الأمور (وكثيرٍ غيرها بتفصيلٍ وفيرٍ أحيانا) لم يأتوا أبدا على اللغة العربية مرتكزا أساسيا وجوهريا في ترسيخ الهوية المصرية. لا يدري واحدُنا إن كان إغفال بديهيّة موقع اللغة في تشكيل الهويّة صدر عن جهلٍ بها، أم عن إهمالٍ وعدم اكتراث، أم هو مقصود. وما يزيد الاستغراب الحادث هنا ما نصّت عليه واحدة من التوصيات التي تبعث على نفور واجب، وتستحقّ الاستنكار، وهي الخامسة في البند المؤشّر إليه أعلاه، ونصّها بالضبط "إطلاق قناة خاصة بالأطفال بإنتاج وطنيٍ متميّز يعبّر عن هويّتنا، يكون محتواها منطوق (الصحيح منطوقا) بلهجةٍ مصريةٍ صحيحةٍ في مقابل ما تقدّمه قنوات والمنصات العالمية والإقليمية الأخرى". دعك من خلل الجملة تعبيريا، ودعك من أن ضمن اللهجة المصرية تنويعاتٍ عديدة، تجيز القول إن ثمّة لهجات مصرية. الأساسي هنا: لماذا يوصَى بقناةٍ تلفزيونيةٍ للأطفال باللهجة المصرية فقط؟ ولماذا لا تكون باللغة العربية الفصحى، لتُساعد الأطفال على امتلاكها صحيحة، مع المرور على اللهجات المتنوّّعة وعدم التعامل معها بعداء، سيما وأن العاميّة هي التي تسود الفضاء اللغوي الذي يحيط بالطفل؟.
الأصل أن تتأصّل لدى الناشئة لغةٌ واضحةٌ يكونون قادرين على نطقها صحيحةً، بمخارج للحروف سليمة، وأن يعرفوا أن الفصحى هي الجوهر والأساس، وأن عليهم أن يعرفوها ويُتقنوها ويتدرّجوا في هذا مع جريان السنوات، ويقرأوا القرآن الكريم والإنجيل، والشعر القديم والحديث بها. ولمّا كانت التوصية بإنتاج "وطنيٍّ متميز"، فالوطنية لا تعني، في أي حال، تعظيم اللهجات العامية ونبذ اللغة العربية السليمة. بل لا تزيّد أبدا في القول دائما إن حماية اللغة العربية مسألةٌ وطنيةٌ واستراتيجية عليا، وفي صلب مسألة الهوية ...
أخفق الحوار الوطني المصري في غير مسألةٍ وشأن. وسقط في واحدة من بديهيّات البديهيّات.