ويسألونك عن القيم؟
تكمن معاناة الفكر الإنساني الآن في توالي النزالات الفكرية المؤرّقة، والصراعات الناجمة عن الالتباسات في المفاهيم والخلط في القيم، وربما يعود ذلك إلى تقوقع المفكرين وانزواء المثقفين المنوط بهم مسؤولية توجيه البوصلة للمجتمعات الإنسانية؛ والمساهمة في بناء المفاهيم وتعزيز القيم والمبادئ والفضائل، بعيداً عن مأزق التنميط، وإشكال الأيديولوجيا والتوظيف السياسي، الذي قد يطاول تلك المفاهيم؛ بسبب المنافسة الحادّة التي أحدثتها المنصّات الرقمية في ميدان التعبير وصناعة المحتوى وإدارته، وتداول المعرفة عليها؛ إذ سرعان ما تثور، بين الفينة والأخرى، سجالاتٌ ومداولات شتَّى، تلهب حماس المفكرين والمثقفين، ويتجاذب أطرافها جمهور المريدين، وخصوصاً رواد المنصّات الرقمية المتفوقين تقنيًا وانتشارًا، وآخرها هذا المعترك الفكري الذي تمترس خلاله كل فريق نحو قناعاته وانحيازاته بشأن القيم الدينية والقيم الإنسانية، ومفاهيمها الدينية، المحافظة تارّة والعلمانية الحداثية تارّةً أخرى: تعريفاً وتأصيلاً وتأويلاً، غير أن الراصد المستنير، والباحث المتجرِّد عن سبر أغوار هذه الإشكالية؛ يجد أن الأمر غاية في اليسر من دون ضجيج صارخ، خصوصاً أن مياهاً كثيرة قد جرت تحت جسور هذه التعريفات والتأويلات؛ اعتماداً على الرؤى التوافقية والتصالحية المتعايشة مع هذه القيم، والتي نعوّل كثيراً عليها.
تمثِّل القيم الدينية قيماً ومبادئ أخلاقية غاية في السمو والرُّقي؛ كالحياة والرحمة والتراحم والخير والحق والعدل والحرية والمساواة
تشكِّل القيم الدينية، سيما الإسلامية منها؛ الفطرة الإنسانية، وإطاراً مرجعياً لضبط سلوك المؤمنين وترشيد علاقتهم بذواتهم والآخرين في المجتمع الإنساني بأسره، وآلية مهمة لتوجيه خياراتهم في الحياة، وتقويم سلوكياتهم، والتحكّم فيها، فضلاً عن حمايتهم من الانحراف، بالإضافة إلى دورها في حلحلة أية نزاعاتٍ وصراعات، تحفظ للأوطان لُحمتها وللمجتمعات تماسكها، وللأفراد حياتهم؛ ليساهموا في بناء المجتمعات الإنسانية، وتنميتها وتطويرها، والمشاركة الجادّة في مسيرة التنمية البشرية المستدامة كافة، وتقدمها وازدهارها، من خلال الارتقاء بإنسانيتهم ودينهم من خلال قيمة "الإحسان"، عبر ربطهم بالخالق والمخلوقات البشرية والحيوانية والطبيعية الأخرى؛ ليشكِّل الدين، في الأخير، إنسانية الإنسان. وتمثِّل القيم الدينية بذلك قيماً ومبادئ أخلاقية غاية في السمو والرُّقي؛ كالحياة والرحمة والتراحم والخير والحق والعدل والحرية والمساواة.. إلخ، حيث تركت الأديان مهمة التوافق على تفسيرها وتوظيفها في شرائع وأنظمة وقوانين؛ لأتباعها في المجتمع بمختلف أديانهم وثقافاتهم وأعراقهم وتنوعاتهم المذهبية وتوجهاتهم الفكرية؛ لتكون قيماً دينية ثابتة وراسخة رسوخ الجبال وسامية، تنتمي لـ "الإنسانية" كافة وتصونها؛ لأننا، ببساطة، لو رصدنا تصور الإسلام لـ "الإنسان" ومفاهيم حركته في الكون والحياة والمجتمع؛ للاحظنا، بما لا يدع مجالاً للشك، عمق إنسانيته.
لا ينفي هذا التفسير مفهوم القيم الإنسانية التي تنشد الإنسان بوصفه قيمةً حضاريةً، ولَّدتها أنساق فلسفية مغايرة، جعلت الإنسان كائناً متمتعاً بصفاتٍ غاية في الأخلاق والكمال والجمال، يشكِّل، وحده، محور الكون وتركيزه، وصولاً به إلى النموذج الكامل، القادر على إبراز جميع إمكاناته الوظيفية والطبيعية. ولم يكن هذا المستوى من التطبيق ممكناً غربياً إلا بعد حصاده حالة القهر التي لحقت بالأوروبي في القرون الوسطى؛ بسبب انحراف السلطة الدينية التي شرعنت وضعه المزري، فسادت حالات التذمر على رجال الدين، الذين اضطهدوا "الإنسان" فترات طويلة، بمفاهيم رجعية، أحدثت شروخاً تاريخية بين "الإيمان بالله تعالى" و"الإنسانية". وشكَّلت هذه الفترة القاتمة أحلك فترة عانتها البشرية، بعدما حورب التحديث والتطوير والإبداع بداعي الهرطقة، وجرى تحويل محاكمها من دُوْر لتحقيق العدالة، إلى أداةٍ سلطويةٍ لإقصاء الخصوم وتدميرهم؛ فارتكبت أبشع الجرائم ضد المكونات الدينية المتنوعة (الأقليات)؛ فتعالت النداءات لحفظ كرامة الإنسان، إعلاءً لقيمته، عوضاً عن قيمة اللاهوت الكنسي. وقد تضاعف، على أثر ذلك، الحراك للإنساني الغربي مع تباشير عصر النهضة الأوروبي، إذ أسبغت فلسفتها على العقل (العقل الإنساني) حقيقة مقدسة واعتبرته بدلاً لمفاهيم ما وراء الطبيعة اللاهوتية؛ بوصفه إِلهاً للإِنسان الذي يعيش معه على وجه البسيطة! فيما تم إرساء تشريعات نظامية وقانونية وفكرية؛ لضمان عدم عودة أي سلطةٍ بشريةٍ مستمدّة من الأديان! وبالطبع، هذا الإشكال الأخير مرفوض في هذه المقاربة الإنسانية التي تفصل "الإِنسانية" عن منهج الخالق، جلَّ شأنه، منشئ هذا الكون ومصدر كلِّ حق وخير وجمال وكمال فيه. وبعد ويلات القرن الماضي، وحروبه العبثية التي قضت على الأخضر واليابس؛ ازداد الشعور العالمي بـ "القيم الإنسانية"؛ وتضاعف الإحساس بضرورة التعاون والتضامن وبناء الجسور لإرساء السلم بين المجتمعات الإنسانية، وتم ترويج النظام العالمي الجديد القائم على العلمانية والليبرالية، وتعزيز قيمة الإنسان بدلاً من قيمة الأديان!
تشكِّل القيم الدينية، سيما الإسلامية منها؛ الفطرة الإنسانية، وإطاراً مرجعياً لضبط سلوك المؤمنين
هذا الحماس المتحيّز الدائر من الفرق المتناحرة في ربوعنا العربية والإسلامية، لو تم توظيفه لإرساء معايير هذه القيم كافةً؛ لتوكيد المعرفة الكونية، والتعارف الإنساني، وبناء جسور التفاهم والتعاون والتواصل والتضامن مع الآخر، والحوار معه وقبوله على أسسٍ مَرْعية من الصراحة والنقد الموضوعي والتسلح بسلطان الحقيقة التي تلزم البحث عن الحق والصدع به: طرحاً وتحليلاً وتقويماً؛ ومكافحة التطرّف العنيف ولجم خطاب الكراهية والتنمّر والعدوانية، من أجل تحقيق أهداف غاية في النبل والرفعة والسمو: إرساء فضائل الرحمة والتراحم والتسامح، وتعزيز قيم الأمن والأمان وإشاعة مبادئ السلام في مجتمعاتنا كمطالب عزيزة تنشدها النفس البشرية، بات الحصول عليها مشروطاً بتعزيز قيم الأمن والسلام على أساس من قيمتي الحق والعدل؛ لأنني أزعم أن القيم الدينية والإنسانية متضافرة ومتوافقة، ولا يمكن بأي شكل الانحياز لجانب ضد الآخر في هذا الشأن؛ كما أزعم أننا لو نهضنا، بهذا التطبيق الحياتي والعملي، لهذه القيم في سلوكياتنا وآدابنا وتعاملاتنا الدينية والإنسانية كافةً، لم نصل فقط إلى قمة الحضارة الإنسانية والكونية والتمدين الحداثي فقط، بل لصافحتنا الملائكة في الطرقات! لأن الدين الذي يشكِّل حالة حضارية ونسقاً لحفظ حياة الإنسان وصيانة كرامته؛ يتفاعل مع عقل الإنسان وطموحاته الحياتية؛ ويحفَّزه دائماً على التجويد والإبداع والتفكير الذي جعل منه فريضة دينية، كما العلم قيمة تفاضلية بين البشر، فضلاً عن تعزيزه القيم الأخلاقية والنفسية والجمالية فيه؛ فحضَّ أتباعه على فضائل التعارف والتكافل والتعاون والتضامن والتآزر والعدل وغير ذلك من القيم الدينية أو إن شئتَ، قل: الإنسانية التي تسمو بإنسانية الإنسان كمخلوق جعله الخالق سبحانه محوراً لكينونته وإنسانيته، لذلك تتماهى القيم الإنسانية في الدينية والعكس، إلا تلك القيم التي تجعل الإنسانية منفصلة عن الخالق سبحانه، مصدر كل كمال وجمال في كونه. ويبقى السؤال: ما السبيل لتوظيف قيمنا الدينية وتطبيقاتها النوعية في الحضارة الإنسانية؟