وظائف أخرى للمروحة السقفية
في البناء التقليدي للبيوت العراقية القديمة، والتي تعتمد، بشكل أساسي، على الطابوق المفخور، كان السقف يُبنى بأعمدة حديد متعارضة، ويُرصف الطابوق بينها بشكلٍ دقيق، بطريقةٍ تسمّى عراقياً "العكادة".
واحدة من اللحظات المميزة عند "الخلْفه" أو "أسطا البناء" هي حين يعلّق الخطّاف "الجنكال" في العمود الأوسط، وهو ما سيكون موضع تعليق المروحة السقفية في الغرفة. .. يبقى هذا الخطّاف الحديد ملفتاً في منظره في وسط السقف العاري حتى تأتي المروحة السقفية أو "الثريا" التي تزيّن بأضوائها الغرفة، في حال الاعتماد بالتبريد على المروحيات الأرضية. ولكن المروحة السقفية أو الخطّاف الخاص بها يحملان ذاكرةً أخرى موازية، خصوصاً للذين عايشوا الحقب التاريخية للحكومات العراقية، منذ انقلاب 1958 حتى نظام صدّام، فهذا المكان "خطّاف المروحة السقفية" مهم جداً في عمليات التعذيب.
لدى عراقيين كثيرين قصص عن "التعليق بالمروحة السقفية" في أقبية الأمن وغرفه العامة، أو الشعبة الخامسة واستخبارات الجيش، وحتى مقرّات الفرق الحزبية البعثية، حيث تربط أيدي "المتهم" من الخلف، ثم تربطان بحبلٍ معلق بالخطّاف السقفي، ويرفع إلى الأعلى، ما يحقّق ضغطاً شديداً على أوتار الكتفين وتتسبب هذه العملية بآلام شديدة، تكون فعّالة في انتزاع الاعترافات. وهناك إشارات كثيرة إلى أن الأنظمة العراقية السابقة، ولا سيما نظام صدّام، اعتمد هذه الوسيلة في التعذيب مع وسائل أخرى جُلبت من دول المعسكر الاشتراكي السابق، ومن الاتحاد السوفييتي في الحقبة الستالينية.
ومن المؤسف أن صور التعذيب هذه لم تغدُ بعد جزءاً من الذاكرة المريرة عن الاعتداء على حقوق الإنسان، وما زالت حيّة، وبين فترة وأخرى نسمع عن حوادث، يتم فيها استخدام هذه الوسائل البشعة في التعذيب، إن كان من الأجهزة الأمنية الرسمية، أو من جماعات مسلّحة خارجة على القانون.
في الأسبوع الماضي، عايشت عائلة وأصدقاء الناشط البيئي جاسم الأسدي محنة شديدة بعد أن اختطفته جهة مجهولة عند أطراف بغداد، في طريق عودته إلى منطقة الجبايش في جنوب الناصرية (العراق) حيث يقيم ويعمل. والأسدي من أكثر الشخصيات نشاطاً في مجال البيئة وإنعاش الأهوار في الجنوب، وكان يرافق، بشكل دائم، الفرق الأجنبية الفنيّة، وحتى مجموعات السياحة. وارتبط اسمه في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مع صوره في بيئة الأهوار، واستغرب كثيرون كيف أن شخصيةً من هذا النوع ليس لها نشاط سياسي مباشر، تتعرّض للاختطاف.
وبعد 15 يوماً، مارس خلالها الناشطون ضغطاً على الحكومة العراقية من أجل الكشف عن مصير جاسم الأسدي، أطلق سراحه أخيراً، وكان في حالةٍ يرثى لها، وبدت آثار التعب عليه واضحة في الصور التي ظهرت لوسائل الإعلام، ثم فاجأنا في أول تصريح للقنوات الإعلامية، بأنه، وهو في الثامنة والستين من عمره، قد تعرّض لأنواع شتّى من التعذيب الجسدي، ومنها التعليق في مروحة السقف!
لم يكشف الأسدي عن الجهة الخاطفة، ولم تكشف الحكومة العراقية عنها أيضاً، واكتفت بممارسة دور الوسيط، بما يوحي بأن للجهة الخاطفة ثقلا ووزنا يجبران الدولة كلّها على أن تقف على الحياد في هذه الفضيحة.
لا يحتاج المراقب الى تحقيق دقيق كي يعرف أن سبب اختطاف الأسدي لأنه "داس" على طرفٍ لجهةٍ مسلحة، أو زاحمها، بقصد أو من دون قصد، على مصلحةٍ معيّنة، وهي، على الأغلب، متعلقة بالاستثمار الاقتصادي للمصطحات المائية للأهوار.
ليست حادثة اختطاف الأسدي وتعذيبه أقلّ من فضيحة، وما دامت الحكومة العراقية غير راغبة بمحاسبة الجهة التي تقف خلفها، فهي توصل رسالة خاطئة إلى كلّ المواطنين بأنهم معرّضون جميعاً للاختطاف والتعذيب والتعليق في المروحة السقفية من أي جهةٍ كانت، وستقف الدولة على الحياد، ولن تمارس دورها الواجب في حماية أرواح المواطنين ومصالحهم.
في العمق، تحيلنا هذه الحادثة المحزنة إلى تغلغل روح الاستبداد في النظام السياسي، حتى وإن تعلق بأهداب الديمقراطية، وهي روح موروثة من حقبٍ سابقة، تنعكس على أساليب التعامل مع المواطنين، خصوصاً الذين يحملون رأياً مخالفاً لرأي الماسك بالسلطة. وإننا لم نحقّق أي قطع نفسي أو منهجي مع هذا التاريخ القبيح، وإنما نعيد إنتاجه مرّة بعد أخرى، وإن تغيّرت أشكال النظام السياسي.