وطن يبحث عن منفى
مَن أوحى لأمّ الطفل السوري، حسن الخلف، بعدما خافت عليه ويلات الحرب في أوكرانيا، أن تلقيه "في القطار" بقلبٍ جسور، وطمأنينة بالغة، ليقطع وحده 1500 كيلومتر، باتجاه الحدود السلوفاكية، من دون أن تذرف لها (أو له) ولو دمعة واحدة؟ تُراها كانت تتمثل ما فعلته أم موسى عندما ألقت طفلها في اليمّ، أم هو حدس الأمومة الذي لا يخطئ، عندما يتعلق الأمر بحياة طفلها؟
لا أحد في وسعه أن يعطي إجابة شافية، ولا حتى الأمهات اللواتي يُتقنّ فنّ الفعل أزيد من القول، غير أن ما يستوقفنا هنا، هو الالتباس الذي وقعت فيه السلطات السلوفاكية، عندما خلعت على الطفل السوري صفة "البطل"، لكونه أمضى رحلةً شاقةً أربعة أيام، وحيداً، ولم تكن تبدو عليه أمارات الفزع والرهبة.
لم يدرك رجال الشرطة هناك أنّ حسن الخلف يمارس طقساً مألوفاً، بوصفه "خير خلفٍ لخير سلف"، ولا سيما أنه سبق لأبويه أن قطعا مسافة أشدّ ضراوةً من سورية إلى أوكرانيا بسبب حروب الاستعباد التي مارسها النظام السوري ضدّ شعبه. وكان عمر حسن لا يتعدّى عاماً، فالحرب بالنسبة إليه إحدى متلازمات كبرى في حياته، وعليه أن يهرُب كلما استدعت الحاجة.
"كان يحمل كيساً بلاستيكيّاً فقط"، وهذا ما أثار عجبهم أيضاً، من دون أن يدركوا أن ثمّة متاعاً آخر غير مرئي، كامناً في جيناته العربية، قوامُه إرث طويل من خيبات الشعوب بأنظمتها، التي تدفعهم دوماً إلى البحث عن المنافي البعيدة، حتى وإن "استجاروا بالرمضاء من النار"، فلحقتهم الحروب إلى المنافي، لكن يكفي بالنسبة إليهم أن يتحرّروا من طواغيتهم التي تخترع حروباً داخلية غير متكافئة ضد شعوبها، وتستخدم فيها الأسلحة الكيميائية والعنقودية والبراميل المتفجّرة، لتبقي عروشها قائمة فوق الخواء.
المشي الطويل بالنسبة إلى المواطن العربي ليس رياضة بدنية أو ترفاً يزاوَل في فترات ما بعد القيلولة وتناول الوجبات الدسمة، بل أسلوب نجاة، ولا سيما أنّه يقترن باللهاث اليومي خلف رغيف الخبز والفواتير و"الوظيفتين" أو "الثلاث" أحياناً لتلبية أدنى مقوّمات الحياة. ولعلّه هرولة، أيضاً، مقترنة بالتلفّت المرعب في كل الاتجاهات، هرباً من الاعتقال أو من هراوة شرطيّ، أو من مسدّس كاتم صوت، أو حتى من برميلٍ متفجّر. وفي خضمّ هذا العدْو المتواصل، لا يعود للمسافات أيّ معنى، ولا للزمن أيضاً، فالمهم بالنسبة إليه بلوغ أي محطةٍ لالتقاط الأنفاس ليس إلّا، ومن ثم استئناف المسير.
كان ينبغي أن يتركوه ماشياً بدل هذه الكرنفالات التي أحاطوه بها، وهو زائغ العينين ينظُر بحياد، معتقداً أنّ العالم برمّته يشاطره المشي والركض والهرب واللجوء. ولا وقت لهذا البذخ، وما سباقه الوحيد إلّا مع القذيفة التي تطارده، من بقعةٍ إلى أخرى، ومع الهراوة التي تقطع عليه الطرق، والحواجز التي تسدّ عليه المنافذ. كان سباقه مع طفولةٍ تطالبه بحقوقها ورجولةٍ تفرض عليه استحقاقاتها قبل الأوان، مع موتٍ يسبق الحياة، وحياةٍ تنجب الموت.
لم يكن حسن خلف يخوض سباق مشي أو ركض؛ ليخلعوا عليه صفة "البطل"، فهو لم يرَ خطّاً للنهاية بعد؛ لأنّ كلّ الخطوط التي كان يعرفها تنتهي دوماً إلى المقابر الجماعية، ولأنّه يمقت هذا الوصف أصلاً، بعدما شهد بأمّ عينيه كيف تخلع صفة البطولة على رعاديد في وطنه العربيّ "الصغير"، من أولئك الجنرالات المسربلين بالنياشين والنجوم والأوسمة، الذين لم يربحوا حرباً واحدة إلّا حربَهم مع شعوبهم، فآثر أن يبحث عن منفىً لا يشبه الوطن، غير أنه وجد الوطن لاجئاً مثله ينتظره هناك في كييف، ليستقبله بباقة قنابل، وليقول له إنّ من طردك طردني مني، وإنّ من سرق أجمل سنوات عمرك سرق مني تاريخي كله، وها أنا مثلك أبحث عن منفى.