ورطة "أقرب مما كان متوقّعاً"!
بدأ العالم، في سبعينيات القرن الماضي، يشهد الموجة الأولى لإطلاق مؤسساتٍ لاستشراف المستقبل على نحو علمي. وخلال ما يزيد قليلًا عن ربع قرن مضى، تراكمت سحب إنذارات متلاحقة بشأن طيف واسع من المخاطر المنتظرة في المستقبل: السيناريو المالتوسي الكئيب، والتغيّر المناخي، وحروب المياه، والذكاء الاصطناعي، والشيخوخة الديمغرافية، وغيرها. وعلى النقيض مما عمَّ العالم، وبخاصة الغرب، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، من تفاؤل جامح عزّزه سيل التصوّرات اليوتوبية (تصوّرات "المدينة الفاضلة") كان النصف الثاني من القرن العشرين زمن التشاؤم المهول!
والجديد المهم في ظاهرة استشراف المستقبل وبناء السيناريوهات التي يُرجَّح وقوعها تكرار عبارة: "أقرب مما كان متوقعاً". وأخيراً (3 سبتمبر/ أيلول 2023) نشر الباحث المصري عصام حجّي على صفحته على موقع فيسبوك تدوينة عن دراسة حديثة له، والدراسة بحد ذاتها مهمة جداً، لكنها، في الوقت نفسه، تضمّنت هذه العبارة التي تعني أنّ ثقة العلماء في "السيناريوهات الاستشرافية" تحتاج مراجعة.
"ثغرة" في السيناريوهات المستقبلية تحتاج إلى تغيير منهجي لحل إشكالية عجزها عن التنبؤ الدقيق
موضوع الدراسة كيف تخسر المدن العربية الساحلية المعركة ضد التغيّر المناخي، وهي دراسة دولية مشتركة بين جامعتي كاليفورنيا الأميركية وميونخ الألمانية. وتحذّر الدراسة من أن الضغوط المناخية والبيئية المتزايدة تشير إلى احتمال حدوث فيضانات في الإسكندرية ومدن ساحلية عربية أخرى. ويلخص عصام حجّي ما ترجّحه الدراسات الاستشرافية في عبارة متشائمة، يقول: "نحن نخسر المعركة ضد التغيّرات المناخية التي تهدد الموارد المائية". والأهم، في سياق تناول أزمة الدراسات المستقبلية قوله "المخاطر التي تواجهها المدن الساحلية في المناطق الجافه تحدث في وقت أقرب بكثير مما كان متوقّعًا"!
وظاهرة التفاوت بين الأرقام التي توقعتها السيناريوهات الاستشرافية والمتوالية الزمنية التي تحدُث بها الوقائع فعليًا تحمل دلالاتٍ عدّة، أولها ما يمكن أن يواجهه مخطّطو السياسات، وطنيًا وعالميًا، في التعامل مع المخاطر، بل حتى مع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسكانية الكبيرة، حتى لو لم تصنّف قطعيًا ضمن المخاطر. وخلال السنوات القليلة الماضية، تكرّرت العبارة المقلقة "أقرب مما كان متوقعاً" في سياقات عديدة، ففي إطار ما شهده العالم خلال السنوات القليلة الماضية من حرائق غابات غير مسبوقة في حجمها وتتابعها ونطاق انتشارها، وكذلك المعدّل المتسارع لذوبان الغطاء الجليدي في مناطق عدة في العالم، أكّدت دوائر علمية عديدة أن ظواهر التغيّر المناخي أدّت إلى النتائج التي كانت تعتبر في السيناريوهات المستقبلية السابقة "مخاطر"، ما يعني وجود "ثغرة" في السيناريوهات المستقبلية تحتاج إلى تغيير منهجي لحل إشكالية عجزها عن التنبؤ الدقيق.
ظواهر التغيّر المناخي أدّت إلى النتائج التي كانت تعتبر في السيناريوهات المستقبلية السابقة "مخاطر"
والفشل الجزئي في التنبؤ المستقبلي لم يقتصر على الظواهر الطبيعية ذات النطاق العالمي، فمن المرجّح أن تكون "المدخلات" التي استخدمت في بناء السيناريوهات غير كافية، أو أن تكون الظواهر نفسها محكومة بقوانين تطور أكثر تعقيدًا، ولا يُستبعد أن تكون سبب الثغرة دراسة الظواهر في أطر منفصلة، أو إهمال أبعاد "غير مادّية" يتعذّر رصدها رقمياً. وتعد السيناريوهات الديمغرافية التي نشرت منذ صدور "تقرير نادي روما" الشهير (حدود النموّ 1972)، نموذجاً لهذه المشكلة المزمنة في سيناريوهات استشرافية كثيرة. وعلى سبيل المثال، فشلت السيناريوهات الديمغرافية لمستقبل الصين فشلًا كبيرًا في التنبؤ بالنقطة التي سيصل عندها الاقتصاد الصيني إلى نقطة التأزّم بسبب الشيخوخة، وكان هناك تنبّؤ يشبه "الرقم السحري" الذي يتكرّر بقدر كبير من اليقينية، وكانت نبوءته أن يصل عدد المسنين عام 2020 إلى 300 مليون مسنّ، وهو ما تحقق قبل التاريخ المتوقع بسنوات. والأمر نفسه حدث في معدّلات تحقق نبوءات التغيّر المناخي وتابعه المثير للقلق: "الاحترار"!
وبالعودة إلى الدراسة التي شارك فيها عصام حجّي، نجد نُذُراً مقلقة تعكسها سلسلة دراسات جديدة تتناول مخاطر التغييرات المناخية المتزايدة في مدن الساحلية في نطاقٍ يمتد من الإسكندرية إلى المنامة وطنجة وغيرها. ولبعض هذه المدن أهمية اقتصادية كبيرة، وتدهورها السريع يمكن أن تكون له عواقب إقليمية وعالمية. وعلى وجه التحديد تواجه الإسكندرية مستقبلاً مليئاً بالمخاطر، أخطرها تآكل السواحل، كما أنها (حرفياً) "واحدة من أقلّ المدن قدرةً على مواجهة الفيضانات".
وما شهدته درنة الليبية، أخيراً، ينقل المخاطر من صفحات التقارير العلمية محدودة الانتشار إلى شاشات الإخباريات، قد جاء بالمستقبل "أقرب مما كان متوقّعاً"!