والله إن هذه الحكاية لحكايته

13 يناير 2023

عبد الفتاح كيليطو ... تكريم بجائزة الملك فيصل

+ الخط -

ليست الحكايةُ حكايتي، مع أنّني من يرويها، بل هي حكايُته، رغم أنّه هو أيضاً لم يعشِ الحكاية، بل كان راويها فقط، لأنّ صاحب الحكاية صمتَ عن الكلام منذ ألف عام. وكذلك فعلت راويةُ حِكايته، شهرزاد صاحبة المتاهة الحكائيّة. فكان أن صار عبد الفتّاح كيليطو الرّاوي الذي صارت الحكايةُ حكايته، هو الشّخصية الشّجاعة في الحكاية، الذي تَقدَّم ليُمسك خيطها، ويبحث عمّا لم تقلهُ شهرزاد بعد اللّيلة التي تلتِ الألف، وما تعمّدَت جَعلهُ غامضاً في ظاهر الحكاية. قائلا "والله إنّ الحكاية لحكايتي"، في عنوان روايته. لكنّ ذلك محضُ تمويه، حتى نغفل عنهُ، وهو يدخل حِكايةً قديمة، حاملاً حكاية حديثة، فيصيرُ هو راوي وصانع الحكاية.

انتظر بعضهم ما الذي سيكتبه كيليطو في رواية، بعد جبلٍ من الكتب النّقدية، التي تُنكر الأنا. وتحفّزوا لمعرفة تفكير كيليطو غير الناقد، والمقارنة بينه وبين الكُتّاب الذين يُحبّهم ويذكرهم دوماً. لكنّني كنت لأستغربُ لو وجدتُ غير ما وجدت، فهو يأخذ الكتابة عن الكتب مهّمة خاصة، يُفكّكها، يبحث خلفها، يحفر وينبش فيها، ويفتح في جدرانها أبوابا ونوافذ، حتى أصبح مقيماً فيها. كان يمكن أن يُزاوج بين التراثين، العربي والأمازيغي، أو بين الأدَبين الحديث والقديم. لكنّه ظل وفيّاً لمساره ولكتب التراث العربي: ألف ليلة وليلة وكتب الجاحظ والمعرّي وأبي حيان التوحيدي ... حتّى عندما قدّم رواية ضمّنها شخوصَ كُتبهِ المعتادة، التي يعرفها كما يعرف خطوط يديه. قد تكون شخصياتٌ هذه الكتب مستهلكة من شدّة الاقتباس، لكنّها بين يدي كيليطو تغدو حيّة، تنمو وتتطوّر، وتنضج، وتجد طريقاً بمسارات جديدة.

في وقت ما، فكرّتُ أن كيليطو يُكرّر نفسه، بعدما قرأتُ له أعمالاً كثيرة، لأنه يعود، بشكل متواصل، إلى الكتب نفسها، وأوّلها ألف ليلة وليلة. لكن التقدّم في عدد ما قرأته له، جعلني أدرك أنّه عبر كلّ كتاب، يواصل نسج متاهته، التي تتطلّب وضع قِطع من هذه الكتب، في جلّ ما يكتبه. والقارئ صاحب النّفَس العميق من سيضعُ يده على هذه الخلاصة، وقليلون تمكّنوا من ذلك وقرأوا الكثير مما كتبه، إلى درجة أنهم عرفوا بوجود متاهةٍ تنبني على قطعِ بازل، لن نعرف موضوع الصّورة الشاملة، إلّا إذا اقتربنا من إتمامِ آخر قطعة. وهؤلاء القرّاء بعينهم من يستحضر كيليطو، لكن هذا لا يعني أنّ القارئ الخفيف القراءات لن يستمتع بما كتبه، حتى لو قرأ كتاباً واحداً له.

أُعلن، قبل أيام، فوز كيليطو بجائزة الملك فيصل، وهي من أكبر الجوائز العربية التي تُمنح تكريما عن مجمل عملِ كاتب، فارتفعت قيمة الجائزة مع ارتباطها باسم كيليطو، بينما بقي هو الكاتب نفسه. لأن الذين يعرفونه ما زالوا يحملون له التقدير الذي كان، ولم تُضف الجائزة له ما لم يكن فيه. لكنّها ملأت فراغاً اتسع بين كاتب كبير والجوائز، فكيليطو لم يكن من الأسماء التي توضع بين يدي جائزة عربية، لأنّه لا يكتب على مقاس شروطها، فكُتبه قليلة الصّفحات، عميقة ومختزلة. ليس له في المصطلحات النّقدية المعقدة، ولا في المنهجيات الصّارمة للكتب النقدية.

يكتب كيليطو بروحه وبمعرفته الحَدسية والفنية، وتقودُه روح قارئ كبير لا أدوات ناقد. عكس جلّ النقاد، يكتب للقارئ، لا للباحث والأكاديمي الذي سيقتبس ما كتبه وتطويه المكتبات. ويكتب أيضاً من أجل طرح أسئلةٍ عما قد نراه بديهياً، ونمرّ عليه مرورنا على سطح الأشياء اللّامعة، ظنّا منا أنّها لا تملك غير لمعانها. قائلا ً"إن كان هناك ترياق ضدّ البلاهة فهو في السُّؤال اللّامتناهي". والبلاهة هنا ليست عكس البداهة، بل مقابل للتفكير خلف ما يُرى على السّطح، الذي يدركه الجميع ما فيهم البلهاء. والمتاهة الفكرية لا تعني التّيه، بل حقيقة أنه لا توجد نهاية. وكل ما يمكن فعلهُ هو طرح السّؤال القادر على الوصول إلى المسار الصّحيح داخل المتاهة، وإلى سؤالٍ مفتاح. حيث يحمل اسم كيليطو صفته الأساس: عبد الفتاح "الباحث عن المفتاح"، الذي يحمل خريطة المتاهة التي لا تنتهي، لكنها تؤدّي دوما إلى هديةٍ تلو أخرى، كما في متاهات الألعاب الإلكترونية. وهي الهدايا التي تُطيل أجل المشي في المتاهة التي ينتهي عمر الإنسان ولا تنتهي.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج