واشنطن والرياض... محاذير الوعود المُبهمة
تستعدُّ واشنطن لـ "تفخيخ" اتفاقٍ مُزمعٍ مع الرياض بشأن التطبيع مع دولة الاحتلال، بوضع عبارات عامّة قابلة للتأويل، وغير مقترنة بإجراءاتٍ مُلزمة، ولا بجدول زمني أو بمرجعية دولية محدّدة، بما يسمح للطرف الإسرائيلي بالتنصّل والمماطلة، ومع الثقة بأنّ الرياض، بما تتمتّع به من حنكة سياسية ودبلوماسية، تتنبّه تماماً لمثل هذه الأساليب، إلا أنّ من المفيد التذكير بهذا الأمر في هذه الظروف، التي يضاعف فيها الجانب الأميركي من جهوده لإحراز نجاح للرئيس جو بايدن، ما يسهّل استثماره في حملته الانتخابية، فعقب زيارته تل أبيب، قبل أيام، سرّبت مصادر اسرائيلية أنّ مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان عرض مقترحاً جديداً يتضمّن، فيما يتضمّنه، تصريح تل أبيب بالموافقة على "إيجاد أفق سياسي لحلّ الدولتين". وإذ لا تخلو هذه العبارة من جاذبية لغوية، إلا أنّ بلاغتها السياسية (في التأثير على الأمر الواقع وتغييره) تبقى أقلّ من بلاغتها اللغوية، وبما يُحفّز الطرف الاسرائيلي على التمسّك بالأمر الواقع، تاركاً للآخرين، في الأثناء، أن يغرقوا في الجدل بشأن ما يعنيه "الأفق السياسي" أو حتّى حلّ الدولتيْن.
عند توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية، قبل نحو أربع سنوات، سُرّبت وعودٌ إسرائيلية بأنّ تل أبيب سوف تُجمّد مشروع ضمّ غور الأردن من الجهة الغربية، وذلك "ثمناً" تُؤدّيه تل أبيب للتطبيع معها. ومنذ ذلك التاريخ، يتكثّف الاستيطان في تلك المنطقة المُحاذية للأردن، وتزداد وتيرة الاستيلاء على الأراضي لتحويلها مواقعَ عسكرية أو استيطانية، وبذلك، يتحقّق الضمّ، فعلياً، من غير إعلان عنه. وللمرء ملء الثقة بأنّ منظور الرياض مُختلف، بل سبق لمسؤولين فيها، من بينهم وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، أنّ صرّحوا أنّ منظورهم للتطبيع مختلف، وأنّ تلبية الحقوق الفلسطينية الثابتة تقع في صميم هذه العملية السياسية. غير أنّ ذلك لن يمنع واشنطن من مواصلة الالتفاف على حقوق الطرف الضحيّة في الصراع، وليس أدلّ على ذلك من تعليقات مسؤوليها بشأن اعتراف دول أوروبية، أخيراً، بدولة فلسطين، إذ جرى الإعلان في واشنطن أنّها لا تُؤيّد ما تسمّيه اعترافا أحادياً، وأنّها تتمسّك بما سوف تسفر عنه المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبما أنّ الطرف الإسرائيلي يعلن جهاراً نهاراً، ويقرن القول بالفعل برفضه قيام هذه الدولة على أرض فلسطين، فسوف يكون بوسع واشنطن القول بعدئذ: "نحن آسفون.. لم تنجح المفاوضات، هناك طرفُ يرفض قيام هذه الدولة. قد نشرع في المستقبل بمحاولة أخرى في هذا الصعيد". بل سبق لبايدن، الرئيس الصهيوني، حسب نعته الذاتي نفسه، أن صرّح، في معرض حديث له عن احتمال قيام دولة فلسطينية، أنّ الدول ليست سواء، وأن ثمّة دولاً قائمة في عالمنا، مثل الفاتيكان وموناكو وسان مارينو، بما ينبئ بأنّ الرجل لا يأخُذ الحقوق الفلسطينية مأخذ الجد، وبأنّه لا يمانع، بل لعلّه يُحبّذ إنشاء دولة على رقعة صغيرة في مدينة رام الله، مثلاً، لـ 14 مليون فلسطيني، وكلّ ما يهمّه تعظيم مكانة إسرائيل جغرافياً وعسكرياً واستراتيجياً، ولو على حساب غيرها.
لتطويق ذلك، من الأهمية بمكان، دعوة واشنطن لحمل تل أبيب على التقيّد بالتزامات واضحة للاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو (1967)، بما يشمل الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وعاصمتها القدس الشرقية، مع ما يرتبط بذلك من إنهاء الاحتلال الاستيطاني والعسكري في إطار القرارات الدولية ذات الصلة، ومبادرة السلام السعودية ــ العربية، على أن تبحث مفاوضات إسرائيلية فلسطينية سبل تنفيذ هذه الالتزامات، وبما يكفل الأمن والسلام للطرفيْن، وخلال فترة زمنية لا تتعدّى ثلاث سنوات، وبما يسمح بدمج الدولتيْن؛ فلسطين وإسرائيل في المنطقة، وبما يحقّق سلاماً جدّياً وعادلاً تدافع عنه الشعوب، وتتوقّف فيه إسرائيل عن كونها دولة غير عادية، وغير طبيعية، في أنظار القطاعات الأوسع من الشعوب. ومن المهمّ، أيضاً، في هذه الظروف، أن تُوقَفَ الحرب بصورة كلّية على قطاع غزّة، إذ لا يُعقل أن يجتمع صيف وشتاء على سطح واحد، وفي وقتٍ واحد، وأن تدور مباحثات من أجل السلام في ظروف الحرب، وأيّ حرب؟ إنّها حرب إبادة تقشعرّ لها أبدان البشر الأسوياء.
الشيطان يكمن، ليس في تفاصيل الاتفاقيات فحسب، بل كذلك في العبارات حمّالات الأوجه، وفي الوعود المُبهمة
لطالما كان الشيطان يكمن، ليس في تفاصيل الاتفاقيات فحسب، بل كذلك في غموض الصياغة، وفي العبارات حمّالات الأوجه، وفي الوعود المُبهمة، كحال الوعد الجديد بـ "خلق أفق سياسي"، وبما يسمح بالمناورة والتسويف وتبديد الوقت، في استعراض التفسيرات، وقد احتاجت مصر نحو عشر سنوات للاتفاق على طابا (صدر حكم بمصريّتها في 1988)، فيما تنصّلت تل أبيب من اتفاق أوسلو (1993)، وألغته من جانب واحد، من دون أن ترفّ أجفان مسؤوليها، وليس سرّاً، ولا هو من المبالغة في شيء، القول إنّ تل أبيب تريد تطبيعاً مع السعودية يحقّق لها حضوراً في المنطقة، من غير أن تدفع استحقاقات صراع طويل، وضع المنطقة وشعوبها، وبالذات شعب فلسطين، على صفيح ساخن، منذ أزيد من سبعة عقود متتالية، وبما شكّل هاجساً دائماً وضاغطاً على الرياض.
والراجح أنّ المفاوضات مع الجانب الأميركي، بشأن هذه المسألة، ستكون شاقّة، وذلك بسبب الممالأة الأميركية التقليدية لتل أبيب، وبينما يتحدّث مسؤولون في واشنطن، من جانب واحد، عن أن الاتفاق الأميركي السعودي بات قريباً جدّاً، فإنّ ثمّة خياراً يبقى أمام الرياض فيما يتعلق بالمعالجة الواجبة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويتمثّل هذا الخيار، في حال عدم حدوث تقدّم جدّي في هذا المسار، أن تكتفي الرياض بإعلان نوايا، تُبدي فيه توجّهها مُستقبلاً لإقامة سلام مع تل أبيب، وأن يقترن هذا التوجّه بإقامة علاقات دبلوماسية معها ما إن يغدو الجانب الاسرائيلي ناضجاً لإبرام سلام شامل، يتمّ فيه الوفاء بالحقوق الفلسطينية، وفي مقدّمتها الحقّ في إقامة دولة ذات سيادة على أراضي الرابع من يونيو (1967)، وعلى أن تتبادل هذه الدولة الاعتراف مع الدولة الإسرائيلية، فيتمتّع الجميع في المنطقة بثمرات السلام والأمن.