هيكل تشريعي صوري ثانٍ في تونس
بعد سلسلة من العمليات الانتخابية البطيئة والمعقّدة، اعتُمِدَ فيها خليط من الاقتراع المباشر القاعدي (العمادات) ونظام القُرعة (المُعتمديّات) والاقتراع غير المباشر (الولايات)، هي أقرب إلى أن تكون عمليةً تصعيديّةً مرجعيتها الأساس الانتماءات القرابية والروابط الدموية (العرش والقبيلة)، انطلقت يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 2023، بمشاركة 11.66 % من الجسم الانتخابي التونسي، واستمرّت على مراحل عدّة خلال أشهر، محطّمة كافة الأرقام القياسية العالمية المُتعلّقة بالفترات الانتخابية، وقد غابت عنها الشروط الانتخابية الضرورية، من حملات انتخابية وسبر الآراء والبرامج السياسيّة، وبعد كلّ ذلك التمشّي الهلامي الذي لا يوجد مثيل له في القواميس الانتخابية والنظريات السياسية، انتصب المجلس الوطني للجهات والأقاليم عاقداً جلسته العامة الافتتاحية، في 19 إبريل/ نيسان الحالي، وفق القواعد التي حدّدها الأمر الرئاسي عدد 96 (16 إبريل 2024)، المُتعلّق بدعوة أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم إلى حضور جلسته العامة الافتتاحية.
يُسوَّق المجلس الوطني للجهات والأقاليم، من الرئيس التونسي قيس سعيّد والفئة القليلة من أنصاره ومفسّريه، غرفةً نيابيةً ثانيةً، إلا أنّ هذه الغرفة صُمّمت على مقاس ما أصبح يعرف بـ"أبناء المشروع"، وهم طبقة طفيلية انتعشت في ظلّ سلطة 25 يوليو (2021)، بعد أن كان جُلّ أفرادها حواشي لمنظومات حاكمة سابقة في فترات حكم بن علي، و"الترويكا"، والباجي قائد السبسي وحكوماته، وصولاً إلى فترة حكم سعيّد. ويبدو أنّ الفكرة مستنسخة من مجلس المستشارين الذي أحدثه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في السنوات العشر الأخيرة من ولايته، ليكون ريعاً للتجمّعيْن الدستورييْن، الوفيين للرئيس ولرموز معارضة الديكور، خاصة بعض رؤساء الأحزاب الكرتونية من حواشي نظامه، بموجب التعديل الدستوري في يونيو/حزيران 2022، وتشكّل أول مرّة في 3 يوليو/ تموز2005، وحُلَّ في 23 مارس/ آذار 2011.
المجلس الجديد مكوّن من 77 نائباً، بمعدّل نائب لكلّ 162 ألف نسمة، باعتبار أنّ عدد سكّان تونس، وفق آخر التقديرات الإحصائية 12.5 مليون ساكن، منهم 72 نائباً يمثّلون المجالس الجهوية، وعددها 24 بثلاثة نواب عن كلّ مجلس جهوي، خمسة نوّاب يمثّلون الأقاليم الخمسة، وذلك بحسب ما جاء في المرسوم الرئاسي عدد 10 (8 مارس 2023) المتعلّق بتنظيم انتخابات المجالس المحلّية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. ومن ثمّ يكون عدد أفراد المؤسستيْن التشريعيتيْن التونسيتيْن مُجتمعتَيْن، أي مجلس النوّاب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، 238 نائباً، بعد أن كان عدد النوّاب التونسيين 217 نائباً طيلة عشرية الثورة التونسية (2011-2021).
الهياكل التشريعية في تونس اليوم أمثلة حيّة لهدر المال العام وصرفه في غير موضعه، في زمن طفت فيه الهشاشة المالية في الدولة التونسية
أدرج دستور 25 يوليو (2022) المجلس الوطني للجهات والأقاليم في صنف المؤسسات المُوكل إليها الوظيفة التشريعية، شأن مجلس نوّاب الشعب، وخصّه بستّة فصول، جزء منها تقني يتعلّق بكيفية انتخاب أعضاء هذا المجلس، وحجّر الجمع بين عضوية المجلسيْن النيابييْن، ومنع امتهان أنشطة بمقابلٍ مالي، وسحب على أعضائه أحكام الحصانة البرلمانية. أمّا وظيفة هذا المجلس فقد حدّدها الدستور، في الفصل 84، بالقول: "تعرض وجوباً على المجلس الوطني للجهات والأقاليم المشاريع المتعلّقة بميزانية الدولة ومخططات التنمية الجهوية والإقليمية والوطنية لضمان التوازن بين الجهات والأقاليم. لا تتم المصادقة على قانون المالية ومخططات التنمية إلا بأغلبية الأعضاء الحاضرين بكلّ من المجلسيْن على ألّا تقلّ هذه الأغلبية عن ثلث أعضاء كلّ مجلس"، وفي الفصل 85: "يمارس مجلس الجهات والأقاليم صلاحيات الرقابة والمساءلة في مختلف المسائل المتعلّقة بتنفيذ الميزانية ومخططات التنمية". وأشار الفصل 86 إلى أنّ "القانون ينظّم العلاقات بين مجلس نوّاب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم"، لكنّ هذا القانون لم يصدر بعد، ومن غير المعلوم ما إذا كان سيصدر عن الغرفة الأولى أو الغرفة الثانية، أو عن كلتيهما، ما يجعل من ضبابية العلاقة بين المؤسّستيْن التشريعيتيْن لا تقتصر على طبيعة العلاقة بينهما، وإنما تنسحب على وظيفة المجلس الثاني ودوره في الحياة العامة. فما جاء في الدستور هو مقولات عامة فضفاضة، تدخل كلّها في نطاق صلاحيات البرلمان، وكان على الرئيس سعيّد وحكومته أن يصدرا قانوناً ينظّم عمل المجلس الوطني للجهات والأقاليم، ويحدّد نطاق عمله وفق محتويات دستور 22 يوليو (2022)، قبل الدعوة إلى عقد الجلسة العامة الافتتاحية. وتزداد وظيفة الغرفة الثانية غموضاً وعسراً في ظلّ غياب المحكمة الدستورية أو هيئة دستورية أخرى، لحسم الخلافات وتنازع الصلاحيات، بين المجلسيْن التشريعييْن.
لقد انطلق عمل المجلس الثاني مرتبكاً يعوزه وضوح الرؤية والمعرفة الدقيقة بصلاحياته وصلاحيات نوّابه، وحدود التماس مع البرلمان، وطبيعة العلاقة مع رئيس الدولة وحكومته ووزرائه، كلّ على حدة، ومع ولاته في الجهات. ورغم منع وسائل الإعلام التونسية والأجنبية من حضور الجلسة الافتتاحية للهيكل التشريعي الثاني، باستثناء الإذاعة والتلفزة الوطنيتيْن الحكوميتيْن، في خطوة إقصائيةٍ وضربٍ لحرية الإعلام والصحافة، فقد انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يتحدّث فيه أحد النوّاب الجدد، عبر الهاتف إلى صديق له يدعى "سليم"، قائلاً باللهجة العامية "آه سليم هاني نحوس (أتجوّل) نحوّس وين تحب إنت نقعد وين نحب حرّ يا ولدي متاعي المجلس". لقد أثار هذا الفيديو موجة من التندّر الشعبي والتهكم والوصم، طاولت بسبب ذلك السلوك أعضاء المجلس برمّته، ذلك أنّ المتحدّث لم يكن مصدّقاً لما هو عليه من مكانة جديدة كانت أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع المعيش، خاصة وأنّ اتهام النوّاب الجدد بدأ منذ انطلاق الترشّحات الأوّلية، وما انتهت إليه من نتائج في أطوارها المحلّية، بأنّهم المثال لضعف المستويات التعليمية، وإفرازاً للظاهرة العشائرية والقبليّة المنغرسة في الأرياف والمدن الصغيرة التونسية، وللفتوّة في الأحياء والحواضر الشعبية المتاخمة للمدن الكبرى التاريخية، وأنّهم خير مثال لاختطاف السياسة من العوام، بعد أن وفّر لهم سعيّد الأرضية القانونية المناسبة، فلا غرابة في أن يتحدّث بعضهم لغة غير سياسية.
ضبابية العلاقة بين المؤسّستيْن التشريعيتيْن لا تقتصر على طبيعة العلاقة بينهما، وإنما تنسحب على وظيفة المجلس الثاني ودوره، فما جاء في الدستور مقولات عامة فضفاضة
وبالرغم مما ابتغاه الرئيس سعيّد، بصريح القول، من أن تكون هذه المؤسسة التشريعية، ونظيرتها البرلمانية، قلعة للمهمّشين الذين يجب أن يتولوا إدارة البلاد ومناصبها القيادية لوضع المخططات التنموية، والتشريعات القانونية، بعيداً عن العشرية التي يصفها بالسوداء (2011-2021)، ومكوّناتها الحزبية، فإنّ رئاسة المجلس الوطني للجهات والأقاليم قد آلت إلى أستاذ العلوم الفيزيائية، ومدير المعهد الثانوي بجلمة من ولاية سيدي بوزيد، عماد الدربالي، الذي ترشّح في الانتخابات التشريعية لسنة 2019، ضمن قائمة حزب البديل التونسي، الذي أسّسه، وكان يترأسّه، رئيس الحكومة الأسبق، مهدي جمعة، وقد فاز هذا الحزب بمقعدين آنذاك فقط، من 217 مقعداً، لم يكن الدربالي من بينهم. بعد مرور 13 شهراً على انطلاق عمل البرلمان التونسي في 13 مارس 2023، طبقاً لما رسمه سعيّد في دستوره ومراسيمه ونصوصه التأسيسية، فجعل منه أداة للمصادقة على القوانين الحكومية ومنبراً لبعض الشخصيات الوزارية، والعجز التام عن تمرير أيّ مبادرة تشريعية تقدّم بها النوّاب على كثرتها وتعددها، من غير المستبعد أن يكون المجلس الوطني والإقليمي مجرّد هيكل تشريعي صوري آخر، اقتضته ضرورات الزينة السياسيّة، ليكون واجهة أخرى وسلعة تباع للقوى الدولية، شأن مجلس المستشارين زمن حكم زين العابدين بن علي، لا يختلف، في صوريّته وضعف أدائه وعدم استقلاليته عن الرئيس وسلطاته ونفوذه، الذي طاول كافة القطاعات والمجالات وجعل منها مجرّد أذرع لحكمه وسلطانه، عن البرلمان التونسي المكنّى مجلس نوّاب الشعب.
إنّ فقدان الهياكل التشريعية التونسية لصفة السلطة، والإقرار بها، مجرّد وظيفة بنص دستور 25 يوليو، لا يقلّل من مكانتها في نظر الرأي العام فقط، وإنّما يحرمها ثقة التونسيين وقواهم الحيّة ونخبهم المدنية والسياسية والفكرية الأكاديمية، ومتابعة أنشطتها، وجعلها مادة للنقاش العمومي، كما الأمر في التعامل مع مجلس النوّاب قبل 25 يوليو (2021)، فتصبح هذه الهياكل أمثلة حيّة لهدر المال العام وصرفه في غير موضعه، في زمن طفت فيه الهشاشة المالية في الدولة التونسية، وشحّت الموارد إلا من المداخيل الجبائية المؤلمة، والقروض الخارجية بفوائدها المشطّة وشروطها المذلّة، التي تفضح ما يُرفع من شعارات سيادية وهمية.