"هوبزة" عراقية
كثيراً ما كنت أسمع من الرجال الكبار في العائلة أنه لو كان الملك الحسين، أو حتى حافظ الأسد، في مكان صدّام حسين خلال العام 1990 لما حدث غزو الكويت، في إشارة إلى أن هاتين الشخصيتين السياسيتين، رغم الاختلاف والبون الشاسع بينهما، تملكان قدراً من الحسّ السياسي، أكثر من صدّام، ربما يمكنهما من حلّ المشكلات ما بين العراق والكويت بالطرق السلمية، من دون كارثة الغزو التي تسبّبت بتدمير الكويت والعراق.
هؤلاء الرجال الكبار في العائلة يصفون شخصية صدّام بأنه "يهوبز" و"هوبزي"، وكان من الواضح أنهم يقصدون؛ شخصيةً انفعالية، تتّخذ القرارات بناءً على الانفعالات والعواطف، وليس التفكير المتأني والعقلاني. ولاحقاً قرأت كلمة لصدّام في اجتماع مع أعضاء حكومته في مارس/ آذار 1987 يقول فيها: "ليس من الصحيح دائماً أن تبدأ بالعقل. أحياناً يبدأ الإنسان بالعواطف وينتهي بالعقل".
وكان من المثير أنه مع الأسباب العديدة التي ذُكرت في وسائل الإعلام العراقية في وقتها عن أسباب الغزو، أنّ صدّام يذكر شيئاً عن تهجّم أحد الكويتيين على شرف العراقيات. ويقصد صدّام أنّه غزا الكويت بسبب غضبه من تهجّم أحد مواطني هذا البلد! وهذا، بناءً على ما سبق، قرار "هوبزي" إن صحّ أنه السبب. غير أننا، بعيداً عن قصّة تهجّم كويتي فرد، لا نعدم وجود سبب انفعالي وراء قرار الغزو، فصدّام لم يتحمّل المفاوضات التي كانت جارية في وقتها، وظنّ في نفسه القدرة والمهابة الكافية لإرغام الآخرين على القبول بالأمر الواقع الذي تصنعه مغامرته الانفعالية الهوبزية!
كم سيكون من الرائع والمفيد أن ننظر إلى هوبزة صدّام أنّها عبرة ودرسٌ من الماضي، لولا أنّ الوقائع تكشف لنا، بين حين وآخر، أنّ هوبزة صدّام ما زالت موجودة، وأنّ هذه الصفة السيئة مستمرّة فينا، بشكلٍ أو بآخر، شعباً ونخباً وساسة.
"الهوبزة" العراقية متداخلة مع "الشعبوية"، فهذه صار يلجأ إليها الساسة العراقيون، ابتداءً من العهد الجمهوري، لاستثارة عواطف البسطاء من الناس، وتكوين شعبية وسمعة، تعوّض عن الشرعية المنقوصة التي يعيش فيها القائد والزعيم السياسي، الذي انقلب بالدبّابة على السلطة، أو جاء راكباً أصوات الانفعالات الشعوبية نحو صندوق الاقتراع، وحين صار في السلطة اكتشف أنّه لا يملك إلا الصوت العالي، لا برامج ولا خطط تنموية ولا أيّ شيء آخر!
لقد أديرت أحداث العنف الطائفي في العراق بالشعوبيات وتأجيج الانفعالات التي ينساق معها ناس كثيرون يتوهّمون الحقيقة في ما تقوله النخب السياسية والدينية في البلد، ولا يفهمون أن هذه النخب كانت تتصارع على الاستحواذ عليهم هم، هؤلاء الناس، وعلى أصواتهم الانتخابية.
في الهوبزة العراقية ليس هناك فهم للسياسة بما هي إدارة للمصالح ومساومات وتسويات وحلول وسط، وإنما سقف شعارات عالٍ، وحين تحين ساعة الجدّ، يلوذ القائد والزعيم السياسي بالصمت ويرضخ للتسويات على مضض، وتتلاشى "الهوبزة" أمام حقيقة أنه قد يخسر مصالحه ونفوذه إن استمر بهوبزته الى نهاية الطريق.
وعلى مدى عقود طويلة، قد تكون ابتدأت من "فرهود" أملاك اليهود في أربعينيات القرن الماضي، ثم سحل الوصي على العرش الملكي في شوارع بغداد في 1958 تكوّنت علاقة تبادلية ما بين ساسة الهوبزة والمجتمع الهوبزي!
لا يمكن، بالطبع، أن ينجز السياسي الهوبزي من دون فئة اجتماعية تستجيب لاستثاراته الانفعالية، وتشكّل ردّ الصدى لقراراته أو تصريحاته. وقد يكون من الصحيح القول إنّ أيّ مجتمع في العالم يحتكم الأكثرية فيه إلى عواطفهم وانفعالاتهم وغرائزهم التي تُخبرهم بالتهديدات التي يتعرّضون لها في حياتهم ورزقهم ومستقبل أبنائهم، فيؤيدون هذا الحزب أو ذاك بناءً على هذه المخاوف والانفعالات، كما حدث مع صعود النازية في ألمانياً مثلاً، ولكن الفئة الهوبزية من هذا المجتمع تكون أكثر شراسةً ولاعقلانية، وأكثر جرأة على ارتكاب الأفعال الحمقاء، وهي فئةٌ تطلّ بقرنها في أوقات الانفلات وغياب القانون غالباً.
في دولةٍ يضعف فيها القانون، ولا تملك سلطة فرضه على الجميع، نخضع، مجتمعاً ونظاماً، إلى ابتزاز الهوبزة السياسية، التي تلقلق بالشعارات الرنّانة وتهيّج جمهورها ليعتدي على الأملاك العامة، كما في الهجوم على القنوات الفضائية في بغداد وحرق بعضها، أو بالهجوم على السفارات والقنصليات. لتتحوّل الهوبزة إلى مصدر إحراج للعراق مع العالم، وإشارة عدم اطمئنان إلى إمكانية الدولة أن ترسم سياساتها من دون ابتزاز الهوبزة والهوبزيين.