هوامش على المأساة الملهاة الأفغانية

21 اغسطس 2021
+ الخط -

استقبلت واشنطن، في عام 1997، أي بعد عام من سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، وفداً فريدا من نوعه يضم قيادات بارزة في الحركة، للتفاوض حول مد شركة يونيكال الأميركية أنبوب نفط عبر أفغانستان لاستغلال حقول تركمانستان. .. تسارع التقارب بين الطرفين، وزار كابول مسؤولون أميركيون من الشركة ومن وزارة الخارجية الأميركية. وفي يناير/ كانون الثاني 1998، وقعت "يونيكال" بالفعل اتفاقا مبدئيا مع "طالبان". لم تعبأ إدارة كلينتون وقتها بسياسات الحركة بالغة التطرّف ضد النساء والأقليات، ولم يوقف الصفقة إلا جريمة تنظيم القاعدة تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في أغسطس/ آب من العام ذاته. وكان لافتا أن الرد الأميركي اقتصر على قصف معسكرات أفغانية تابعة للقاعدة وليس "طالبان"، كما لم يتم إدراج الأخيرة حركة إرهابية.

لاحقاً، بعد الغزو الأميركي، كشفت صحيفة واشنطن بوست أن المسؤولين الأميركيين عقدوا عبر ثلاث سنوات بعد الهجومين أكثر من عشرين لقاءً مع مسؤولين في "طالبان" للتفاوض معهم حول تسليم أسامة بن لادن والمتورّطين من "القاعدة"، وكان قادة "طالبان" يبدون انفتاحاً مبدئياً على الفكرة، حال توفر شروط وضمانات معينة، وهو ما استمر حتى أيام فقط قبل هجمات "11 سبتمبر" في العام 2001، علما أن شهادات قادة "القاعدة" بعدها اعترفت أن العملية الإرهابية تمّت من دون أي علم لحركة طالبان بها.

تبدو هذه التفاصيل مختلفة عن تنميطات في العيون العربية، تقدّم صورة هزيمة الولايات المتحدة عسكريا واضطرارها للهرب، بينما الواقع أن الولايات المتحدة نظرت إلى "طالبان" استراتيجيا منذ اليوم الأول كنظرتها إلى السعودية على سبيل المثال، حيث السياسات المحلية لا تهم، ما دامت خالية من الطموحات المعادية، بل من الممكن الاستفادة من وضع الاستقرار لتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية.

ما أكثر الدول غير الديمقراطية الصديقة للغرب، وقد ظلت السعودية حليفا وثيقا بينما تحرم فيها النساء من حقوقٍ كثيرة، حتى قيادة السيارة، فما المانع من "سعودية" جديدة في أفغانستان؟ كان هذا جوهر المفاوضات بين "طالبان" والولايات المتحدة التي انتهت بتوقيع إدارة ترامب اتفاق الدوحة في فبراير/ شباط 2020، وفيه نصوص بالغة الوضوح والتفصيل في التزام "طالبان" بمنع أي استخدام لأفغانستان ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

من هذه الزاوية، يمكن النظر حتى إلى هزيمة الجيش الأفغاني الرسمي هزيمة نفسية وسياسية، قبل كونها عسكرية، فالولايات المتحدة لم يكن لها على أرض أفغانستان إلا ثلاثة آلاف جندي، حين أعلن الرئيس بايدن في أبريل/ نيسان الماضي تاريخ الانسحاب، أي أن القوات الأفغانية، على الرغم من كل الفساد وسوء الإدارة، كانت هي من يقاتل فعليا، إلا أن التفاوض الأميركي المنفرد المهين، ثم الانسحاب المفاجئ المستهين، كان لهما أثر أكبر من التوقعات الفاشلة لوكالة الاستخبارات الأميركية.

نقاش عربي آخر هو كم التعليقات المحتفية بأخبار مثل طمس صور النساء على صالونات التجميل في كابول، أو منع مذيعات من العمل، حيث يتمنّى عرب نموذجا مماثلا في بلادهم، بينما بعضهم للمفارقة تُظهر صفحته في "فيسبوك" أنه يعيش في الغرب! ويتوازي مع ذلك حديث عربي اشتمل على المبالغة في الاحتفاء بتطور حركة طالبان، وتصريحاتها الإيجابية عن حقوق المرأة، وكذلك العفو عن العاملين مع الأميركان والحكومة السابقة.

من الوارد أن يكون ذلك صحيحا جزئيا، وللدول العربية والمؤسسات الإسلامية المعتدلة دور مطلوب في دعم ذلك الخط، لكن من المهم التأنّي في إطلاق الأحكام، خصوصا في ظل الخلافات الداخلية بين تيارات "طالبان"، فضلا عن تجارب تاريخية قريبة، كالثورة الإيرانية التي شكلت أول حكومة من مختلف الفصائل، قبل أن يلتهم النظام الإسلامي شركاءه السابقين.

يجب التأكيد على أن نموذج "طالبان" يبقى بعيدا كل البعد عن إلهام حركات التغيير العربية، فثمة اختلافات جذرية تامة في طبيعة الصراع ضد محتل خارجي، وفي خلفية البلاد العرقية والتاريخية، وكذلك يظل نموذجا مرفوضا مهما بلغت تحسيناته، فالحركة صرّحت، بوضوح، إنه لا مكان للديمقراطية والانتخابات، بل ستحكم البلاد بمجلس يستلهم نموذج "أهل الحل والعقد". وشهدنا قمع مظاهرة معارضة سقط فيها قتلى مدنيون في خوست، وغيرها من علامات تشكيل نظام سلطوي جديد، لا نعاني نقصا من أمثاله في عالمنا العربي.