هوامش عراقية ذات معنى
(1)
مفارقةٌ عجيبةُ أن يملك العراق أكثر من مائة مليار دولار، ورصيدا من الذهب يتجاوز 130 طنا، وأن تسود في مدنه وأريافه مستويات الفقر الفاحشة، ويعيش ثلث سكّانه تحت خط الفقر، ولا يحصل معظمهم على الماء الصافي ولا على الكهرباء، وقد انعدم الزرع والضرع فيه بعدما كان يطلق عليه تسمية "أرض السواد"، لوفير زرعه ونخيله وأشجاره، وقد اتّسعت ظواهر الفساد فيه إلى درجة أن ما سُرق علنا في السنوات العشرين الأخيرة، وبتواطؤٍ مفضوح من الفئة الحاكمة فيه، تجاوز تريليونات الدولارات، وأحد مظاهر الفساد التي كشف عنها أخيرا شراء مافيات الدولار وتهريبه عبر الحدود المفتوحة إلى إيران من دون اتباع قواعد تحويل الأموال المعروفة دوليا، وقد سبّب ذلك ارتفاعا في أسعار الخدمات والسلع الأساسية، وانخفاضا في القدرة الشرائية للمواطن، كما وضع العملة الوطنية (الدينار) في مهبّ الريح، وبدا الجوع يضرب الملايين.
وسط هذا الخراب السياسي والاجتماعي الذي يعيشه العراقيون، جاءت تظاهرة الجياع الذين تجمّعوا أمام البنك المركزي العراقي، بعدما لم يجدوا قوت يومهم لتشكّل إنذارا لحكامهم أن لن يكون ثمّة عجب إذا ما استيقظوا يوما ليجدوا مواطنيهم شاهرين سيوفهم، كاسرين حاجز الخوف والعبودية الذي طال أمده.
هذا ما قد يحدث تاليا في العراق.
(2)
الفرنسيون عائدون الى العراق بحماس معلن يذكّرنا بحرارة العلاقة العراقية - الفرنسية إبّان عهد صدّام حسين مع الفارق بين المرحلتين، ففي عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الراحل، كان هناك عراق مختلف، عراق حرّ، سيد ومستقل وصاحب قرار، فيما عراق اليوم محتلّ أميركيا ومهيمَن عليه إيرانيا، ومحكوم من مليشيات وأحزاب تابعة لقوى خارجية، وهذا ما يجعله في علاقاته مرتبطا، رغم أنفه، بمعادلةٍ ذات أطرافٍ متعدّدة، على من يتصدّى للتوافق معها أن يمتلك من الحكمة والمرونة ما يجعله قادرا على الفعل قي ظلها. وهذا، على ما يبدو، قد أدركته فرنسا جيدا، وهو ما جعل قدومها حذرا رغم الحماس المعلن، ولعل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد حسب حسابه، وحصل على ضوء أخضر من الأميركيين، وهم الطرف الأقوى في المعادلة، إذ لا يمكن لواشنطن أن توافق على إعطاء هذا الكم الهائل من "الأرباح" التي تحملها الاتفاقيات التي انتهت إليها زيارة رئيس وزراء العراق، محمد شياع السوداني، باريس، من دون أن تضمن الحصة الكبرى منها لشركاتها ومؤسّساتها المالية التي ستدخل طرفا في أعمال واستثمارات مشتركة مع الفرنسيين.
مافيات تدير السجون تروّج المخدّرات وتُجبر السجناء على تعاطيها
يبقى أن الإيرانيين، وهم الطرف الآخر في المعادلة، لن يكونوا راضين عما تم، والتجربة تعلمنا أنهم سوف يعمدون إلى السعي إلى تخريب هذا التوجّه، ووضع العراقيل أمامه، لأنه سينعكس عليهم بخسارة مورد مالي مهم، تعتمد عليه في دعم ميزانيتها التي تعاني من آثار العقوبات الدولية. وليس أسهل عليها من أن تحرّك "وكلاءها" ومليشياتها النافذة في العراق لإرباك الوضع الأمني، بما يوحي بعدم توفر الأمان للمستثمر الأجنبي، واعتبار العراق بيئةً غير صالحة للعيش وللعمل، وربما يصل ذلك إلى حد إسقاط حكومة السوداني، والمجيء بحكومة جديدة... وهذا ما قد نشهده في قابل الأيام.
(3)
بعد انحسار أخبار فضيحة "صفقة القرن" التي ابتلع أبطالها أكثر من مليارين ونصف المليار من الدولارات من المال العام، وإطلاق سراح معظمهم، وصرف النظر عن ملاحقة "الحيتان" الكبار الذين حصلوا على حصتهم من "الغنيمة" على قاعدة "عفا الله عما سلف"، وهي القاعدة "الذهبية" التي يعمل عليها القضاء العراقي، والتي كانت محصّلتها ردّ الاعتبار لكثيرين من سرّاق ومرتشين ومزوري شهادات خدمة للصالح العام (!). وبعدما أسدل الستار عليها ونسيها الناس انفجرت فضيحة أخرى، ومن "قماشةٍ" مختلفة، إذ كشفت لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي عما وصفه رئيسها أرشد الصالحي "كارثة بامتياز"، مافيات تدير السجون تروّج المخدّرات وتُجبر السجناء على تعاطيها، وعندما سمعت وزارة العدل بذلك، وكانت قد صمّت أذانها من قبل، بادرت إلى عزل بعض مسؤولي السجون، قبل أن تنتشر رائحة الفضيحة، وتزكم الأنوف.
اكتشف المعنيون أيضا أن الشركة التي توفّر الطعام للسجناء تابعة لهيئة الحج والعمرة، أي أنها لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وأن هذه الشركة "الإسلامية" تسرق ما يقرب من 170 مليار دينار سنويا من المبلغ المخصص لها عن إطعام السجناء، إذ تقدّم لهم طعاما خارج المواصفات الصحية المطلوبة. وهذا الكلام كله جزء قليل من أخبار الفضيحة الكارثة التي تفجرت.
بقي أن نقول إن عدد السجناء في العراق (الجديد) بات يشكل كارثة أخرى، إذ تجاوز المائة ألف سجين وفق ما يقوله رسميون، هذا عدا المعتقلين الذين لم يبتّ القضاء في قضاياهم بعد، وأيضا عدا من تحتجزهم المليشيات في مراكز الاحتجاز الخاصة بها، والتي لا يمكن لأحد الوصول إليها أو معرفة ما يدور فيها.