هل يكمل لبنان مسيرته نحو الجحيم؟
يقيم لبنان على حافّة الحرب، ويتوقع كثيرون أن يكمل مسيرته نحو الجحيم. يخزّن سكّانه الغذاء والوقود وإمدادات الطوارئ مع تزايد المخاوف من أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة التي دخلت اسبوعها الثالث سوف تتسع. وتتّجه كل الأنظار الدولية والمحلية إلى الحدود الجنوبية مع إسرائيل، وتبيان مدى استعداد حزب الله للدخول في مواجهةٍ مفتوحة معها، وما إذا كان سيحتفظ لنفسه بكلمة السرّ التي سيقود فيها اللبنانيين الى جهةٍ مرعبةٍ كشريط رعبٍ تلو الآخر، في موحى الإعلان الترويجي الذي بثّه إعلامه الحزبي، مستوحى من أفلام الإثارة والتشويق والترقب والفوضى، وعدم الاستقرارالسياسي. كأنه نسخة لبنانية من عالم ألفرد هيتشكوك، لا تسمح بإثارة أي نقاشٍ أو جدل بشأنها.
درجة التصعيد كبيرة، وغير مضمونة الحسابات، وقد تذهب بلبنان إلى مكان آخر. من الحدود الجنوبية إلى العاصمة بيروت. أصبح اللبنانيون على حافّة الهاوية بشكلٍ متزايد، ويستعدّون لأسوأ السيناريوهات، وهو دخول البلد في الصراع المتصاعد. تمكّن بعضهم من الفرار إلى الخارج، أو التقدّم بطلب الحصول على تاشيرات سفر إلى تركيا وأوروبا ودول في الخليج العربي، واتجه آخرون شمالا، ليكونوا بعيدين قدر الإمكان. وتلقّت الفنادق في جبل لبنان والشمال سيلا من الاستفسارات بشأن الإيجارات طويلة الأجل. لا يريد اللبنانيون الانتظار حتى تسقط أول قذيفة إسرائيلية في مطار بيروت الذي قلّص عدد رحلاته الجوية التجارية إلى النصف. فيما قلصت سفارات أجنبية وعربية عدد موظّفيها، وأوصت أخرى بمغادرتهم فورا.
تسخن الأمور في بلدٍ يعاني من أزمات متتالية وعلى نحو متكرّر، غيرمتضامن مع بعضه بعضا، ومن دون استعدادات فعلية تنسجم منطقيا مع رغبة الحزب واللبنانيين بالقتال إلى جانب أشقائهم الفلسطينيين بالمعنى الواقعي. وتذهب، بالمعنيين، القانوني والمؤسساتي، الى مرحلة ثانية تتطلّب إعلان موقف رسمي (حين يتكلم لا يتكلم شيئا)، ومن دون تناسق يين الأزمة والواقع، بين دور المقاومة ودور الجيش وقوات الأمم المتحدة (يونيفيل) في حربٍ تهدّد كل لبنان، ولا أحد يتكلم عن المعنى السياسي للحرب، ولا تنفع جهود رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، لطمأنة اللبنانيين، بأن حكومته لا تدّخر جهودا للحفاظ على السلام، وتأمين خطط طوارئ عاجلة. كلمات لا تجد صدىً في أنحاء البلاد.
تضغط دول كثيرة لإقناع حزب الله بتفهّم أوضاع اللبنانيين الذين يحتاجون ممرّات آمنة من أزماتٍ لا تُحصى، وتنصح لبنان "بعدم الانجرار إلى المواجهة
ما يحصل في الجنوب اللبناني شيء وما يمكن أن يحصل شيء آخر. والاتصالات التي جرت وتجري مع الأمم المتحدة لمواكبة التطورات، ولمواجهة تداعياتها على الداخل وتأمين الجبهة المدنيّة، لم تخرج بضمانات بوصول مساعدات، فضلا عن صعوبة تأمين مواقع لإيواء النازحين. ثقة اللبنانيين بالحكومة معدومة وسط الانهيار الاقتصادي والشلّل السياسي، وفي أدنى مستوياتها، حتى قبل اندلاع الحرب في قطاع غزّة. وهذا لا يبدّد الاستنتاج بأن حزب الله هو صاحب القرار النهائي، قد يفضّل أن يبقى في نصف حرب، والإعلان عن انتصار لم يتحقق بعد، والاستعداد للأسوأ مع خسائر بشرية جسيمة، وأنه قد يستجيب لتمنيات اللبنانيين.
عمليات إطلاق النار، حتى اللحظة، مقيّدة، ويبذل الجانبان على الحدود قصارى جهدهما لضمان أن تظلّ ردود الفعل العسكرية متناسقة، وعلى مستوى منخفض. والأمور تسخن، والقلق من تخطّيها الخطوط الحمراء المحدّدة بقواعد الاشتباك بين الجانبين، وهناك مجال واسع لسوء التقدير. لكن من ضمن الاستراتيجية الكبرى، حيث يعمل الحزب كأداة مهمّة لإيران في الشرق الأوسط، وفي التفاوض بينها وبين الولايات المتحدة. وإيران لا تريد الدخول في حرب شاملة، لكنها تواجه معضلة متمثلة في دخول إسرائيل غزة ومحاولة تدمير حركة حماس، ما سيضع مصداقيتها على المحكّ ما لم تتدخّل. أما إذا اختارت التدخّل، فستواجه صعوبة في التحكّم بديناميات الصراع. وقد بدأت دوائر غربية تطرح تساؤلاتٍ بشأن الثمن الذي تريده طهران، وعن إمكانات التفاهم معها تحت ضغط الأحداث. استراتيجية محفوفة بالمخاطر. ضعف إسرائيل يربك أكثر من قوتها، وتعتبره إيران ومعها الحزب، منعطفا غير مسبوق، ويتحرك القادة الإيرانيون من موقع أن الوقت لم يفت، و"لدى محور المقاومة إمكانية شن ّحرب طويلة الأمد"، على ما قال وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان.
إيران معنية، أولا، بتأمين مصالحها المباشرة، من دون أن تقدّم إلى الولايات المتحدة وإسرائيل "هدية إلغاء حماس"
إيران معنية، أولا، بتأمين مصالحها المباشرة، من دون أن تقدّم إلى الولايات المتحدة وإسرائيل "هدية إلغاء حماس". هذا، لا يعني، بالضرورة، أن يبادر حزب الله إلى توسيع المجابهة، وأن يستخدم الحزب قوته النارّية مرّة واحدة، لأنها ستدفع تل أبيب إلى استدراج وحدات عسكرية إضافية، ورفع مستوى المواجهة مع القوات الأميركية في العراق وغيره. تضغط دول كثيرة لإقناع الحزب بتفهّم أوضاع اللبنانيين الذين يحتاجون ممرّات آمنة من أزماتٍ لا تُحصى، وتنصح لبنان "بعدم الانجرار إلى المواجهة. مزيد من الحرب يعني أن الناس سوف يضيعون ويموتون، ومعهم نحو مليوني نازح سوري، لن يجدوا ملاذات آمنة، إذ يرفض النظام السوري عودتهم. ما سيقودُهم إلى هجرة ونزوح واسعين. لا أحد يناقش حزب الله بالعقل والقلب معا في تعاطيه مع الوضع المتفجر جنوبا، أو في أن يلتزم بالكامل مع الصراع، ويحافظ على علاقته الوثيقة مع حركات حماس.
التساؤلات كثيرة حول من يضمن أمن الناس في مثل هذه الظروف. سوف تحتاج إلى التأكّد أن المناطق التي تقصدها آمنة، وبشكل موثوق. وإسرائيل تهدد يجعل بيروت غزة ثانية (يوآاف غالانت). ثمّ الأمرغيرالواضح جيدا في مثل هذه الظروف أن يواصل موجة من اللاديبلوماسية مع دول العالم والمنطقة التي نهضت بلبنان شموليا في العام 2006. لن يعمل الحزب بوصية كيبلينغ العاشرة "إذا حافظت على الرأس عندما يفقد جميع الناس رؤوسهم"، في حين تمارس إسرائيل إرهاب الدولة، تغضب على العالم، تقتلهم وتدمّرهم في غزّة، وتصيب أسرهم وأطفالهم ومستشفياتهم، ويجد العالم نفسه يتخلّى عن التزاماته، فتغيب الإنسانية في غزّة، وحيث يُراد لتاريخ الأسطورة الفلسطينية أن يمضي، وما يشهده الفلسطينيون من جرائم القتل الجماعي سيبقى في أذهانهم ألف عام وعام. في المقابل، يحاول لبنان أن يجد وسيلة لحماية نفسه. يعي الحزب معنى أن تخطّط إسرائيل لضربه بعنف، وأن وضع إسرائيل الداخلي المنقسم قد يؤدّي إلى تفلت أكبر، بالتزامن مع مجرى العمليات العسكرية في غزّة، ومع الحشد الأميركي والأوروبي بسفن حربية، ومن زيارات زعماء غربيين إلى إسرائيل. مسار الحرب نفسه يصير جوهريا، فقد تكون الحرب طويلة، ولن تبقى تحت السيطرة، والخشية من توتّرات داخلية في لبنان إلى التوترات في المنطقة.