هل يفلح الجهاديون بما أخفق فيه "الإخوان"؟
لا يمكن لثورة مسلّحة في العالم العربي، تواجه نظاماً فاشياً مسلّحاً وتنتصر عليه، إلّا أن تكون إسلامية متشدّدة، تَعِد كوادرها بالشهادة في سبيل الله، فيطيب لهم أن يحملوا أرواحهم على أكفّهم ويضحّوا بدنياهم كي يكسبوا آخرتهم. بغير ذلك، لا يمكن بناء ثورة ناجحة، كأن تكون قيادتها علمانية أو ملحدة، ولو سمّت نفسها وطنية أو قومية. تلك ثقافة هذه المنطقة من العالم، ومن يتخيّل غير هذا فليس في رأسه عينان.
لذلك، لم تكن إطاحة النظام السوري لتتمّ بغير الطريقة التي جرت؛ أي بأيدي ثوّار إسلاميين متشدّدين. لكن السؤال الآن، وقد شاعت وعود هؤلاء المتشدّدين بأن يصيروا معتدلين، ويقبلوا تعدّد الرأي، وتداول السلطة، وبناء دولة للجميع: هل يمكن لاعتدالهم أن ينجح في شأن الحكم كما نجح تشدّدهم بشأن الثورة؟ بكلمات أخرى، هل يمكن لهم في مرحلة الاعتدال أن يُغروا كوادرهم بالاجتماع حولهم، وقد انقلبوا على خطابهم الأصلي الذي كان يستبعد الجميع؟ أم أن ضمان ولاء كوادرهم وبقاء سيطرتهم على الحكم سيجبرهم على العودة إلى خطابهم المتشدّد الإقصائي؟ وهل يمكن لتلك الكوادر التي جمعتها العاطفة الدينية أن تحيّد تلك العاطفة التي لا تسمح برأي آخر يستند إلى غير الدين، ولا تقبل امرأة غير محجبة، ولا تتقبّل هُويَّة وطنية محلّ الدينية، ما دامت ستساوي بين أتباع الأديان؟ أم أن التشدّد الذي كان ضرورياً في الثورة سيكون ضرورياً في السياسة والحكم، كي لا ينقضّ إسلاميو السلطة على حكمهم من بعد قوة؟
لم تكن إطاحة النظام السوري السابق لتتمّ بغير الطريقة التي جرت؛ أي بأيدي ثوّار إسلاميين متشدّدين
لا تعني تلك التساؤلات بالضرورة التسليم بأن القيادات تغيّرت حقاً، إذ ربّما تتغيّر، وربّما يكون تغيّرها تكتيكياً، لكن كوادرها، في الحالين، ستتساءل عن هذا الخطاب الجديد المُعتدِل، ولن تتفهّمه وتوافق عليه، وستعتبره تفريطاً، خصوصاً أنه جُبِل بالدم والتضحيات في زمن الثورة التي طالت. ربّما ستكون تلك القيادات التي تَغيّر خطابُها نحو الاعتدال بين نارين، إرضاء أنصارها وكوادرها الذين قدّموا معها التضحيات، وأداء متطلّبات الحكم وفنون السياسة التي تستوجب الاعتدال داخلياً وخارجياً. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يقنع تلك الكوادر، من دون أن يدفع القيادات التي تجنح نحو الاعتدال إلى الإخلال بالتزاماتها الجديدة، هو انخراط القوّة الإسلامية المتشدّدة، التي أنجزت إسقاط النظام السابق، في عملية سياسية حقيقية تشارك فيها جميع التيّارات والقوى والاتجاهات السورية، لكنّها تُفضي إلى اكتساحها نتائج الانتخابات، فتجمع الحسنيين، أنها بدت ديمقراطية، وأنها فرضت حكماً إسلامياً يُرضي جمهورها.
هل سيحدث هذا؟... تؤيد المؤشّرات ذلك، حتى وإن كان غير ممكن الجزم بمدى حضور كلّ تيّار على المستوى الشعبي، إذ لم تعرف سورية قياساً حقيقياً لمقدار شعبية التيّارات السياسية منذ عقود طويلة، ولم تشهد أي انتخابات حقيقية، ولو على المستوى الطلابي أو البلدي، ناهيك بالطبع عن المستوى البرلماني. وفق تلك المؤشّرات فإن ما سيجري لا يختلف كثيراً عن المراحل الأولى التي أعقبت نجاح الثورات في تونس ومصر؛ توافق وطني على دستور جديد، تتبعه انتخابات ديمقراطية يفوز فيها الإسلاميون. الفارق هنا أن الإسلاميين الذين سيطروا على المشهد السياسي في سورية، ويُتوقّع أن تدفعهم أي انتخابات مقبلة لمواصلة تلك السيطرة، ليسوا من جماعة الإخوان المسلمين، كما كان الحال في تونس ومصر. هم ليسوا أبناء السياسة ولم يتعوّدوا ألاعيبها، كما هو حال "الإخوان". وهم ليسوا أبناء تنظيم جرى تصميمه لأغراض سياسية في الأصل، كما هو حال "الإخوان". فهل يمكن أن يساهم ذلك في إنتاج حالة غير تلك الإخوانية التي فشلت في تونس ومصر؟
الأمر منوط بسلوك القيادة الإسلامية في سورية خلال مرحلة ما بعد فوزها بالانتخابات. هناك بالضبط عليها أن تعيد استعمال الخطاب القرآني (الذي يُرضي جمهورها) في وظائف معرفية وثقافية ونفسية تناسب مرحلة بناء الدولة. والقرآن في سياقاته الخطابية واللغوية الموجهة للمسلمين يشترط عليهم التقوى؛ أي العدل. كما يشترط عليهم الإيمان، ما يعني أن قيادة الدولة ببرنامج إسلامي لا يتطلّب تشدّد قاعدتها الشعبية بالضرورة. والأمر ممكن ليس لأن الفكر الإسلامي في الشام معتدل بطبيعته، فالاعتدال لم يشفع في منع ولادة التشدّد والتطرّف سابقاً في سورية، ولكنّه ممكن لأن تلك الجماعات المتطرّفة المخلصة لتطرّفها إنما نبتت في بيئة القمع والإرهاب، ومثّلت ردّة فعل عليه، تستنجد من خلال تشدّدها بتأييد الله لها ضدّ تلك القوة الغاشمة، التي كانت تُسمِّي نفسها نظاماً وطنياً حاكماً. التطرّف الديني ليس أصيلاً إذاً، ولم يكن ليظهر لولا تطرّف العصابة الحاكمة، وهذا يعني أنه سيكون ممكناً للقيادات الإسلامية الجديدة (إن أرادت) أن تغيّر من فِكَر جمهورها المتشدّد، قبل أن يحرقها سياسياً بتشدّده.
التطرّف الديني ليس أصيلاً إذن في سورية، ولم يكن ليظهر لولا تطرّف عصابة الأسد الحاكمة
وصل "الإخوان المسلمون" الذين سيطروا على ثمار الثورتين في مصر وتونس إلى السلطة بفضل تاريخهم السياسي، من غير أن يكونوا واجهة الثورة، وركنوا إلى خطابهم التقليدي الذي قوامه الاعتدال، لأنهم لم يواجهوا ضغطاً شعبياً من جمهور متشدّد يعتبر نفسه شريكاً في توجيه الحُكم. ورغم أن هذا كلّه لم يكن السبب المباشر في فقدانهم السلطة، فإنه كان كافياً لانكشاف ظهورهم، وتخلّي ناخبيهم عنهم في مواجهة الثورة المضادّة، لأن جمهورهم لم يكن مرتبطاً بهم عضوياً، كما هو حال إسلاميي السلطة الجديدة في سورية.
الحال إذن أن التحدّيات في زمن بناء الدولة لا تقلّ خطورة عن التحدّيات التي كانت في زمن الثورة. لم نسمع في التاريخ المعاصر عن ثورة مؤدلجة نجحت في السيطرة على الحكم ثمّ صارت معتدلة وديمقراطية تقبل التعدّدية وتداول السلطة. لم يحدث ذلك عند الثوار الماركسيين، ومن الممكن ألّا يحصل عند الثوار السلفيين، الذين يؤمنون بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو من الظالمين، إلّا لو كانت سورية ستقدّم نموذجاً مختلفاً، وتجترح تاريخاً جديداً، وتكون حالة مختلفة في بناء دولتها، على أنقاض دولة الفرد السفّاح وابنه الطاغية.