هل يثوب المجتمع الدولي إلى رشده بشأن السودان؟

11 اغسطس 2024
+ الخط -

(1)
المتابعون أحوال السودان ومآلات الحرب الدائرة فيه، منذ إبريل/ نيسان 2023، لا يرون أفقاً يمكن أن يُفضي إلى إيقاف تلك الحرب الطاحنة، برغم تكاثر الجهود والمساعي ثنائياً، من دول الإقليم، أو جماعياً عبر المنظّمات الدولية والإقليمية. في المقابل، يواصل ملايين السودانيين دفع فاتورة حرب لا تعنيهم في شيء، ولا ترى أطرافٌ عديدة في المجتمع الـدولي أنّ تلك الحرب هي، في مختصر القول، صراعٌ حـول كرسيّ الحكم، لا أقلَّ ولا أكثر.
يموت الناس ولا ينشغل بموتهم أيّ طرف من الضالعين بالحرب. يتشرّد الملايين بين نازح داخلي يُطارَد بالرصاص أو يُحاصره الجوع، ونازحٍ إلى بلدان الجوار، يتعرّض لقهر، إذ هو في أرضٍ ليست له، وهو ضيف على أهلها، يسمع حسن القول من بعضهم، وسوء الفعل من بعض آخر. يقاتل ذلك الجنرال بلسانه، فتشتعل نيران حرب يدفع أثمانها شـعبٌ حفيت أقدام بنيه بحثاً عن ملاذات آمنة، وعن لقمة خبز، وعن جرعة ماء. هكذا ضاع السودانيون تحت أسنّة رماح داحس وغبراء القرن الـ25 الهجري.
نعرض هنا لأمور أساسية، يتعلّق أولها بمسار الحرب في السّودان، والظروف المحيطة بها. ويتّصل ثانيها بما آلت إليه أوضاع المجتمع الدولي إزاء ما عرض لذلك المجتمع من تحدّيات، ومن اختبارات.

السّودانيون بالملايين بين نازحٍ ولاجئ، والآلاف يقتلون، وينتظرالناجون توقّف الحرب، لكنّه انتظار لا يُرجى منه طائل

(2)
يتّصل الأمر الأول بمسار الحرب الدائرة في السّودان، إذ تابع السودانيون أحوال بلادهم (بل قل أهوالها) فلا يروْن للحرب في بلادهم من أولوية عند أكثر أطراف ذلك المجتمع الدولي، إلا قليلَ مسعى لا يعكس جِدّيةً. وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أشهر تلك الحرب في السودان بأنّها حرب منسيّة. لكن برغم ذلك، ظلّ السودانيون ينتظرون حلّاً، والنيران تشتعل فوق رؤســهم كما تحت أقدامهم، بسبب خلاف مُعقَّد بين جنرالين، أحدهما يقود الجيش الرسمي للدولة المُغيَّبة، والآخر يقود كياناً عسكرياً ملتبساً، هو في الأصل مليشيا عشوائية، لكـن كلاهما، ويا للأسف، ســودانيون. تتقاتل الكتلتان العسكريتان، ولا نرى عند كلتيهما نيّةً لإيقاف تلك الحرب، إلا أن تكسر إحداهما عظم الأخرى. والسّــودانيون بالملايين بين نازحٍ ولاجيء، والآلاف يقتلون بالمجّان، في حين ينتظرالناجون منهم حلّاً يوقف القتل، ويوقف تلك الحرب، لكنّه انتظار لا يُرجى منه طائل، وخير منهُ انتظار "غودو"، في المسرحية الشهيرة للأيرلندي صموئيل بيكيت، فذلك انتظـارٌ لا قتل فيه ولا جوع ولا نهب ولا اغتصاب.
(3)
ثمّ نأتي إلى أمرٍ ثانٍ يتعلّق بالظروف التي أحاطـت بها أزماتٌ اسـتجدت في أصقاعَ شتَّى، وأحدثت اضطراباً يكاد يدفع العالم أجمع إلى حرب عالمية لا تُبقي ولا تَذر. اندلعت في فبراير/ شباط من عام 2022 حربٌ شعواء بين روسيا وأوكـرانيا، توتّرت في إثرها علاقات وتحالفات وصداقات. ولروسيا التي نعرف، إرثٌ مُتجذّرٌ في الاتحاد السوفييتي، الذي تبدّد منذ أوائل التسعينيّات، لكنها تتطلع بروح جديدة إلى استعادة تلك الورثة كاملةً في مقابل مارد أميركي، ومارد ثانٍ في أوروبا، ومارد آخر آسيوي هو الصين، يزاحم في الساحة، وقد ظهرت له أسنانٌ، وأذرعٌ طويلة.
ثمّ اندلعت حرب إسرائيل مع المقاومة الفلسطينية في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لتزيد العالم اقتراباً من إشعال حرب إقليمية أوسع في منطقة الشرق الأوسط، وتُشكّل بذلك مُهدِّداً حقيقياً لممسكات السـلم والأمـن الدوليين، وقد يفضي إلى انهيار المنظومة الدولية، بما يحيل الخلافات إلى اضطرابات، وصراعات، صغيرها يتفاعل إلى تصعيد، وكبيرها يندفع إلى إفناءٍ متبادل، أو إن مِلْنا إلى التشاؤم، فسنقول عنه إنّه اندفاع نحو انتحار جماعي كوني بغيـر حساب.
(4)
لعلَّ من سوء طالع السّودانيين (أو هي أقدارهم) أن تشتعل الحرب في بلادهم، وإن كانت بداياتها داخلية فيما بينهم، لكنّها سرعان ما استدعى تصـاعد وتيراتها أطرافاً خارجية، ولكلّ طرف ما يُعلن من مصالح، وما يُخفي من مطامع. وهكذا، تزامنت حـرب السودانيين فيما بينهم، تزامناً كارثياً مع اضطـرابات وانقـلاباتٍ عسكرية، وهبّاتٍ شعبية، وحروبٍ طاحنة في أصـقاعٍ عديدةٍ من العالم، شماله وجنوبه، شرقه وغربه. ولكي تكتمل دائرة السوء، أنّ كثيراً منها يقع على مرمى حجرٍ من السودان، فاختلطت خلال تلك التطوّرات المُربكة أجندات الحابل بأجندات النابل، فصعب إيجاد الحلول، وتعسّر فكّ الاشتباكات بين كلّ تلك العناصر. ومثلما كان وصف رئيس فرنسا صائباً، فقد لحق التجاهل والإهمال بحرب السـودان، فيما اهتمّ المجتمع الدولي ومنظّماته وهيئاته، ثمّ منظّمات مجتمعاته المدنية المستقلّة بحروب أخرى، وبأزمات أخرى، بما يكاد يكون انتقائيةً مذمومة.
وهكذا، انتهى مصير البلد الأكبر مساحة والأغنى ثروة، والأكثر بذلاً سياسياً ودبلوماسياً في الساحتين اللتين انتمَى إليهما، أفريقياً وعربياً، لأن يكون القزم في إقليمه، بعد أن كان المارد المُهاب، وأن يكون مُشعِل نيران الصراعات في أرضه وأرض غيره، بعد أن كان الإطفائي الذي يشارك في إطفاء النيران في العالم العربي، وتشهد الجامعة العربية بمواقف تاريخية له في العراق وفي اليمن، وبشهادة المنظّمة الأفريقية لأدوار مُقدَّرة في تشاد وإثيوبيا وإريتريا والكونغو.

انتهى مصير البلد الأكبر مساحة والأغنى ثروة، والأكثر بذلاً، لأن يكون القزم في إقليمه بعد أن كان المارد المُهاب

(5)
لعلّ الحسرة تهلك الناظر إلى حال بعض المنظّمات الدولية، ومعها بعض المنظّمات الإقليمية أيضاً. لكن تظلّ المنظّمة الأممية التي قويَ عودها منذ إنشائها في عام 1945، الأدعى لأن تبكي حالها الثواكلُ، وأن يرثي الكبار قبل الصغار من الأمم والشعوب هوانها واستخفافها وقلّة حيلتها، فبان أمام الأعين ضعفها وتضعضعها. ذلك هو الذي ترك المنظّمة الأمميّة المَنوط بها حفظ الأمن والسِّلم الدوليين، أعجز من أن تقوم بمهامها المصيرية في الحفاظ على إلزامية نصوص ميثاقها، إنفاذاً وإنجازاً.
ليست حرب السّودان وحدها التي فضحتْ عجزاً إنسانياً كارثياً، هدّد الملايين من البشر، بأكثر ممّا فعللت جائحة كورونا، ومثلها (كما نعلم) يحاصر ربّما بجـرعات تطعيم ناجع. ولكن كيف تتمّ محاصرة جائحة حربٍ يُقتل الناس فيها على الهُويّة، وتدمّر بيوتهم على رؤوسهم، وتغتصب المرأة من نسائهم، حتّى لا يقتلها الجوع هي وأطفالها. بأيِّ مصل وأيّ تطعيم نجد حلولاً لحروبٍ تسترخص أرواح الناس إلى هذه الدرجة المهينة.
تُرى، هل يكون تجاهل المجتمع الدولي بعض أزماته وحروبه ومنافسات أطرافه، سبباً يفسّـر إهمالاً تارة، وعجزاً في تارات أخرى؟ أهو إقرار بالفشل لدرء ما يُهدّد البشرية من مخاطر وتحدياتٍ، أم هـو تمهيد لفناء قادم، ولانتحار كوني مدمّر، تقترب أيّام وقوعِهِ؟ أم ثمّة أمل في يقظة دولية تنقذ ما يمكن إنقاذه، فتتوقف متوالياتُ الحروب بوتيرتها الهندسية، ويثوب العالم بعد لوثته إلى رُشده الغائب؟