هل يتخلّى الغربُ عن ورقة التوت الأخيرة؟

10 ديسمبر 2023
+ الخط -

ليست مصادفة أن تزداد حالات نجاح الأحزاب اليمينية في الانتخابات الأوروبية، مثل ما حصل في السويد وفنلندا وإيطاليا وبولندا، وليس خارجًا عن سياقه فوز العنصريين المتطرّفين مثل خيرت فيلدز في هولندا، وليس من المتعذّر أن يكون دونالد ترامب في سدّة الرئاسة مجددًا في عام 2024، فهذه وقائع ترى ونعايشها يومًا بعد يوم، وليست مجرّد توقّعات وتحليلات وضرب من خيال. فهل يكفي تفسير هذا الانزياح الغربي نحو اليمين من خلال مؤشّرات الاقتصاد وأزمات البيئة والطاقة والصراع على طرق التجارة العالمية ومصادر الثروات والمنافسة مع الصين وروسيا سلمًا وحربًا، أم ثمّة خلفياتٌ تاريخيةٌ ثاويةٌ في العقل الجمعي الغربي، تجعل من القشور سهلة الانزياح عند المنعطفات الحاسمة والاستحقاقات الكبرى؟ وهل فعلًا ثمّة صراعُ حضاراتٍ وتضادُّ ثقافاتٍ بين الغرب والشرق، بين المسيحية الغربية والإسلام، بينما ثمّة وئامٌ وانسجامٌ بين المسيحية واليهودية مما يُسمّى حاليا بين قوسين الثقافة المشتركة، وهل لاختلاف الدين السائد عند غالبية البشر بين ضفتي المتوسط هذا الأثر الكبير في تفريقهم وفي هذه النظرة العدائية تجاه أهل الشرق والجنوب عند نظرائهم؟

من يرجع إلى التاريخ يرى الأمرَ عكس ما يحاولُ الغربيون تصويره، فكُرهُ اليهودِ واضطهادهم محفورٌ في الوجدان الغربي منذ مئات السنين، واستمرّ حتى سقوط الرايخ الثالث وهزيمة النازيّة، بل إن المرء ليغامر بالقولِ إنّه لولا القوانين الصارمة في أغلب دول أوروبا فيما يخصّ تجريم معاداة الساميّة، لرأينا غير ما نسمع تجاههم من المواطنين الأوروبيين. هل ينسى اليهودُ التمييز والترحيل والاضطهاد الذي عانوا منه قرونا طوالا في أوروبا؟ هل ينسى اليهودُ أنّهم كانوا أوائل ضحايا الحملات الصليبية، وأنهم أُحرِقوا وأبيدت مجتمعاتهم عشرات المرّات، عبر تاريخ الغرب المسيحي؟ هل ينسى اليهودُ أنّه جرى طردهم من فرنسا عام 1080 ومن التشيك عام 1098، ومن إيطاليا 1171، ومن إنكلترا ثلاث مرات عام 1188 وعام 1198 وعام 1290 بمرسوم من الملك إدوارد دام مفعول تطبيقه 350 عامًا، ناهيكم عن طردهم وترحيلهم من روسيا وأوكرانيا وبولونيا؟ وهل ينسى اليهود أنّ الغرب المسيحي كان يعتبرهم لوثةً في ثوبه النقيّ، وأنّ الهولوكوست لم يأت من فراغٍ، بل جاء نتيجة طبيعية لمسار الحقد عليهم في هذه المجتمعات؟ ولماذا لا يبحثُ عُقلاؤهم عن فرصة للتعايش في الشرق الذي كان أرحم عليهم بما لا يقارن وفق مقاييس تلك الأزمان، بدءًا من عهد الأمويين في دمشق ومرورًا بحكم العرب الأندلس، ثم وصولًا إلى الفترة العثمانية وحتى مرحلة النكبة؟

في المقابل، يرى الناظرُ بعينٍ فاحصةٍ أنّ السياسات الأوروبية الرسمية تبالغ في حماية اليهود من خلال سنّ القوانين التي تجرّم معاداتهم تحت عنوان معاداة الساميّة، فهل أتت هذه المعاداة مع نشوء إسرائيل ومن جهة العرب والمسلمين، أم هي نتيجة ممارسات الأوروبيين ذاتهم تجاه اليهود؟ يرى المواطنون الأوروبيون الذي يُجبرون على تقديس اليهود رغم أنوفهم بفعل تلك القوانين التي تجعلُ مجرّد التنبيه إلى عدم جواز استهداف المدنيين الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي تهمةً، بل جريمةً كاملة الأركان، يرون أنّهم محرومون من بعض الحقوق التي نشأوا عليها ويفاخرون بأنّهم حصلوا عليها نتيجة نضالاتٍ مريرة، امتدّت قرونًا طوالًا بدءًا من عصر الأنوار وصولًا إلى هذه الأيام. كيف يمكن للألماني أو الفرنسي أو الإنكليزي أو الأميركي أن يقبل حرمانه من طرح الأسئلة بشأن الدعم اللامشروط لإسرائيل رغم الجرائم التي يراها تُرتكب بالأسلحة المصدّرة لها من بلاده وتحت غطاء الحماية السياسية الكاملة منها؟

ولّى زمنُ احتكار الحقائق وتوجيه المواطنين وعقولهم نحو الرواية التي يرغب الساسة بعرضها فقط

ليست مناسبة هذه الطروحات مجرّد الاستجابة لتحدّيات الضمير الإنساني الذي بدا وكأنّه يتصارع مع الإرادة السياسية لحكّام الغرب "المتفوّق حضاريًا" إثر الحرب الهمجيّة على أهل غزّة والضفّة الغربية، بل إضافة إلى ذلك ثمّة أسبابٌ أخرى، تمسّ شرائح مجتمعيّة واسعة أتت من خلفياتٍ مهاجرة بحثًا عن الأمن والاستقرار بعد أن فقدته في بلدانها، فهذه الجموع من العرب والإيرانيين والأتراك والأفغان وغيرهم لم تعد تشعر أنّها مُحصّنةٌ أو محميّة بموجب المبادئ الدستورية والقوانين الأوروبية التي تضع في الصدارة منها حقوق الإنسان. لقد بات الإحساس بأنّ تعريف الإنسان لم يعد واضحًا كلّ الوضوح، وأنّ انطباق معايير الحماية لا يشملهم بالضرورة، وأنّ الشعبويّة المتنامية لا تجد أفضل من تحميلهم وزر فشل السياسات الداخلية، تمامًا مثلما كان يتمّ تحميل اليهود عبر مئات السنين الغابرة وزر أخطاءٍ أو خطايا لم يرتكبوها. هنا يكمنُ سرّ التعمية المقصودة على الحقيقة والسيطرة الممنهجة على وسائل الإعلام. لكن هل يبقى الأمرُ على حاله إلى الأبد؟

يقول الواقع إنّه ولّى زمنُ احتكار الحقائق وتوجيه المواطنين وعقولهم نحو الرواية التي يرغب الساسة بعرضها فقط، فزمن وسائل التواصل الاجتماعي الآن فتح نوافذ لا يمكن إغلاقها أمام الناس، للحصول على المعلومة من أطراف مختلفة، وحتى لو أمكن التحكّم بها أو بمعظمها بعضًا من الزمن، فإن من غير الممكن ذلك في كل الدنيا وفي جميع الأزمان. أليس لهذا بالذات تحدّثت المرشحة المحتملة للرئاسة الأميركية، نيكي هيلي، عن ضرورة منع تطبيق TikTok من العمل في الولايات المتحدة بحجّة أنّ من يتابعون ما يُنشر عبره 30 دقيقة يوميًا تزداد نسبة معاداتهم للسامية وتأييدهم حركة حماس بـ 17%، أليس لأنّ السياسيين يرون كيف يتمّ عبره كسر احتكار إيصال المعلومة إلى الناس؟

انزياحٍ عن القيم التي طالما تغنّى بها الغرب، وصدّرها أنّها قمّة التطور البشري فكريًا وأخلاقيًا

منذ عملية طوفان الأقصى، بدأت ردود الأفعال الأوروبية والغربية عمومًا تكشف عن تناقضات بنيوية في الممارسة الديمقراطية داخل هذه البلدان. وصل الأمرُ حدّ حظر النقاش العقلاني الذي هو من المسلّمات لدى المواطنين الغربيين الذين اعتادوا على أن يكون كلّ شيء تحت مبضع النقد والفحص والمراجعة. كذلك نما شعورٌ بوجود ترهيبٍ ممنهجٍ للجمهور من فكرة التساؤل حول مشروعية ما يقوم به جيشُ الاحتلال الإسرائيلي من انتهاكات خطيرة بذريعة حقّ الدفاعِ عن النفس. ثم صار إرغامُ الناس على القبول برواية الساسة والأحزاب السياسية أمرًا شبه مفضوح، إلى درجة أن شارك في التعمية الفكرية بعضٌ من أرفع المفكرين والفلاسفة، مثل الألماني يورغان هابرماس.

ذلك كله وغيره الكثير يؤشّر على انزياحٍ عن القيم التي طالما تغنّى بها الغرب، وصدّرها أنّها قمّة التطور البشري فكريًا وأخلاقيًا، أو أنّه انكشافٌ صارخٌ لمقارباتٍ طالما جعلت الآخر غير مرئي ولامقروءا. يبدو أنّ العقل الغربي جعل من الشرق والجنوب موضوع دراسة ونقدٍ فقط، فهو ليس ندًّا يمكنه أن يطالب بالمعاملة على القدم نفسها من المساواة، بل هو موضوعٌ للتجريب فقط، أي محلّ بحثٍ لا غير، ويمكن توجيهه وتقريعه وتحميله مسؤوليات عدم تطوّره ليصل إلى مصافّ البشر المتحضرين، لكن لا يُتصوّر أو يُقبل أن يُسمع منه مطالبة بمعاملته بوصفه مكافئًا أو معادلًا أبدًا، فهل يتخلّى الغربُ عن ورقة التوت الأخيرة، ويريحنا من هذه الجعجعة أم يتمسّك الأوروبيون بمنجزاتهم، ويزيحوا الغشاوة عن عيونهم؟

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود