هل وأدت انتخابات 17 ديسمبر شرعية قيس سعيّد؟
على عكس ما كان قد خطط له الرئيس التونسي، قيس سعيّد، لمزيد من تثبيت شرعيته، ومسك جميع خيوط العملية السياسية، وتوطيد أركان سلطانه، والقضاء نهائيا على خصومه السياسيين، وتحقيق حلمه ببلوغ أعلى المراتب شعبية، ليعلن نفسه زعيما وليس مجرّد رئيس، نطقت انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وهي مكوّن رئيسي في استكمال بناء مشروع الرئيس بطوباويته ثلاثية الأضلاع (البناء القاعدي والشركات الأهلية والصلح الجزائي)، بما لديها من حقائق مدوّية، عارية من دون أغطية تستر عوراتها وتخفي طبيعتها التي انكشفت تفاصيلها وخفاياها. لا اختلاف بين الفاعلين السياسيين في تونس وكل المهتمين بالشأن العام التونسي داخليا وخارجيا على أن كلّ قواعد اللعبة السياسية منذ 25 يوليو/ تموز 2021 قد وضعها الرئيس قيس سعيّد بنفسه، وخطّها بيمينه، نصوصا وأوامر ومراسيم من دون استشارة أو مشاركة من أحد، بما في ذلك طيف الموالاة المحدود من الأحزاب والشخصيات التي أيّدته في مساره، الذي انطلق بإعلان حالة الاستثناء وإصدار المرسوم الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، المنظم للسلطات العمومية، عشيّة تعليق العمل بدستور 2014، ثمّ جاءت الاستشارة الإلكترونية الشعبية التي لم يشارك فيها سوى 5% من التونسيين ممن هم في سن 16 سنة فما فوق، مرورا بتنصيب مجلس أعلى للقضاء على المقاس وهيئة انتخابية غير منتخبة يعوزها الاتفاق أو الإجماع والاستقلالية، ووضع قانون انتخابي، سمته الرئيسية التخفيض من عدد النواب في تناقض مع النمو السكاني المتزايد وإقصاء الأحزاب السياسية، واستبدالها بالأفراد ومنع قوى المجتمع المدني ووسائل الإعلام من الوظيفة الرقابية، وصولا إلى الاستفتاء وإقرار دستور 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2022، الذي منح كل السلطات للرئيس، من دون خضوع للرقابة والمساءلة في أثناء ممارسته السلطة وبعد انتهاء المهام، وذلك كله تمهيدا للطريق أمام الانتخابات التشريعية.
لم يشارك في انتخابات 17 ديسمبر سوى 803,638 ناخباً، بنسبة 8.8% من الجسم الانتخابي التونسي المقدّر بـ9,136,502
لم يشارك في انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول الجاري التشريعية سوى 803,638 ناخباً، بنسبة 8.8% من الجسم الانتخابي التونسي المقدّر بـ9,136,502 مرسّم بالسجل الانتخابي، حسب الإحصائيات المعلنة من هيئة الانتخابات عند إغلاق أبواب مكاتب الاقتراع في السادسة مساء، لكن الهيئة عادت بعد يومين، وفي إطار نشر النتائج النهائية، لتعلن أن عدد المشاركين بلغ 1,025,418 ناخباً بنسبة 11.22%، بزيادة تتجاوز مائتي ألف مشارك، مبرّرة الزيادة ببقاء مراكز ثلاث دوائر انتخابية مفتوحة أمام الناخبين في جزيرة جربة ومدينة جرجيس في الجنوب الشرقي التونسي ساعتين إضافيتين، لتمكين اليهود التونسيين من حقهم في الإدلاء بأصواتهم. وكانت حجّة الهيئة الانتخابية في تبديل النتائج باعتماد هامش خطأ لا يتمتّع بأي معقولية، فاقدة القابلية والمصداقية، خصوصا أن عدد أفراد الجالية اليهودية في حدود ألف مواطن فقط، يقيم منهم 900 في جزيرة جربة والبقية في أصيلي جرجيس. ولا يمكن أن يغير هذا العدد من عدد الناخبين بإضافاتٍ لافتة للنظر، ناهيك أن مراقبي الانتخابات في تلك الدوائر الجنوبية أشاروا إلى ضعف المشاركة اليهودية في بعض المراكز وانعدامها في أخرى.
تنامى الاستهجان من هيئة الانتخابات وتوسّعت دائرته، ليشمل شرائح واسعة من المواطنين، بمختلف انتماءاتهم المهنية، وانحداراتهم المناطقية
وقد أثار هذا التغيير في أعداد الناخبين شكوكا في مدى شفافية هيئة الانتخابات ومصداقيتها وحيادها، خصوصا أنها ارتكبت خروقا في الماضي، على غرار التمديد في آجال الترشّح بثلاثة أيام لتمكين المترشّحين من تنسيقيات الرئيس من جمع 400 تزكية، أقرّها المرسوم الانتخابي، وعجزوا عن تأمينها في الآجال القانونية. ولاقت تصرّفات الهيئة استهجان النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين وإدانتها، حسب بيان أصدرته، وجاء فيه أنها "تدين مسار الحجب والتضييق على التدفق الحر للمعلومات من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وحرمان المواطنين من حقهم في الحصول على المعلومات والمتابعة الدقيقة لانتخابات مصيرية في تاريخ تونس ستحدّد الخريطة السياسية المستقبلية للبلاد، وتدين تهرّب هيئة الانتخابات من أسئلة الصحافيين، وتعتبره هروبا من المساءلة الإعلامية، ودليلا على حالة إنكار الهيئة التجاوزات التي رافقت إدارة المسار الانتخابي، والذي أكّدته كل منظمات ملاحظة الانتخابات، وعكسته نسب الإقبال الضعيفة على التصويت". وتنامى هذا الاستهجان وتوسّعت دائرته، ليشمل شرائح واسعة من المواطنين، بمختلف انتماءاتهم المهنية، وانحداراتهم المناطقية وخلفياتهم الأيديولوجية والسياسية، على خلفية تفسير المقاطعة الشعبية الواسعة من رئيس هيئة الانتخابات بغياب المال الفاسد في هذه المحطّة الانتخابية وحضوره في المحطات السابقة، واضعا قرابة 90% من الناخبين في موضع الاتهام. وشمل الاستهجان الذي استحال موجة من التندر والتهكّم، انتشرت بصورة لافتة على صفحات فيسبوك، رئيس الجمهورية بعد مهاجمة المعارضة وتشبيه انتخابات 17 ديسمبر بمقابلة كرة القدم، قائلا: "لم تجد هذه المرّة شيئا تركز عليه سوى نسبة المشاركة في هذه الدورة الأولى للتشكيك في تمثيلية مجلس نواب الشعب القادم، في حين أن نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول، بل بالدورتين، ومثل هذا الموقف القائم على التشكيك من جهات لا دأب لها إلا التشكيك، فضلا عن تورط البعض في قضايا لا تزال جارية أمام المحاكم، مردود على أصحابه بكل المقاييس، بل هو شبيه بالإعلان عن نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول".
تآكلت شعبية "جمهورية الرئيس" وحكومته، وانكشفت طبيعة الرجل التسلطية المستندة إلى نوع من الإلهام الإلهي الوهمي
يعكس هذا الكلام الذي ردّ عليه نشطاء السوشيال ميديا بالازدراء، لفقدانه أبسط قواعد المنطق والعقل الحصيف، جهلا أو تجاهلا من الرئيس بالتحوّلات في موقف التونسيين من "سلطة 25 جويلية" ورئيسها، وهم الذين تظاهروا لنصرته في أكثر من مناسبة، لكنهم استفاقوا، بعد طول انتظار، على أن حلو الكلام بمقاومة الفساد ومحاسبة المجرمين وتطهير البلاد، وإرجاع هيبة الدولة وتوفير الأمان من غدر أصحاب المصالح والنفوذ والتدخل الأجنبي ورعاة الجريمة المنظمة، وتأمين الحياة الكريمة وتوفير الشغل والحدّ من الهجرة غير النظامية وما يصاحبها من انتشار الموت غرقا، وإصلاح قطاعات التعليم والصحة والنقل والفلاحة والأمن والقضاء، ووضع حدّ لأزمات البلاد المالية والاقتصادية واسترجاع السيادة الوطنية المسلوبة، أن ذلك كله قد تحوّل إلى جوع وفقر مستشريين في أوساط أغلب طبقات المجتمع، ولهاث وراء المواد الأساسية والأدوية المختفية من الأسواق، وزيادات مشطّة في الأسعار، وبحث عن حياة آمنة في بلدان أخرى في ظل انتشار الجريمة والخشية على مستقبل الأبناء.
وبعد مرور أقل من عام ونصف العام، استكمل سعيّد جوانب مشروعه السياسي. وبالتوازي مع ذلك، تآكلت شعبية "جمهورية الرئيس" وحكومته، وانكشفت طبيعة الرجل التسلطية المستندة إلى نوع من الإلهام الإلهي الوهمي، الذي تجلّى رغبة جامحة في الحكم وتمسّك خرافي بكرسي السلطة والاستفراد به، استنادا إلى تفويض شعبي مزعوم، مع عجز واضح في إدارة الدولة وحماية مؤسساتها من الانهيار وعدم قدرة على وضعها على سكّة النهوض والتقدّم وفقدان إمكانية التعايش مع مستشاري القصر الرئاسي ومديري الديوان، ما دفع أغلبهم إلى الاستقالة، إلى أن وقعت الواقعة وأعلنت الأغلبية الساحقة من التونسيين المقاومة الصامتة، وقد أخذت هذه المرّة شكل المقاطعة، وهي حركة رمزية مشحونة الدلالة تتضمن، في الآن نفسه، رفض تلويث العملية الانتخابية وتدنيسها، بعد أن استقرّت في الضمير الجمعي التونسي وعيا وفعلا مقدّسا التجأت إليه الشعوب الحرّة أسلوبا وحيدا في تنظيم السلطة والتداول السلمي على ممارستها، وليست عمليةً صوريةً سيكون نتاجها برلمانا شكليا عديم الشرعية والمشروعية الشعبية، أعضاؤه من أوفياء الرئيس ومفسّريه دون سواهم، وإعلان واضح فحواه وأد شرعية قيس سعيّد ونهاية مشروعه السياسي بالآلية الديمقراطية نفسها المعتمدة في توليته أمر التونسيين سنة 2019، الانتخابات.