هل هي أزمة قانونية بشأن ترامب؟
كان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، مثيراً للجدل منذ وصوله إلى البيت الأبيض في العام 2017، فمنذ البداية، استنكر أميركيون كثيرون نجاحه، ووصفوه بأنّه شخصٌ غير لائق سلوكياً لأن يكون رئيساً، خصوصاً أنّه جاء عقب رئيس كانت له شعبية واسعة، باراك أوباما.
ارتبط فوز ترامب بالتظاهرات المناوئة التي وضعت الديمقراطية الأميركية على المحك، كما ارتبط برواج شائعة عن حدوث تلاعب بنتائج التصويت، وتدخّل روسي لصالح الرئيس المثير للجدل. زاد هذا من غضب المعارضين الذين كانوا متحمّسين للمنافسة الديمقراطية هيلاري كلينتون، خصوصاً حين شاهدوا ترامب وهو يتقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، ويعبر عن إعجابه به.
كانت سنوات ترامب كلها امتداداً لهذه اللحظة، ما بين معترضين بصوتٍ عالٍ على وجوده ومناصرين داعمين قراراته وتصريحات فريدة من نوعها لا تخلو من عنصريةٍ وتهجّم على الآخرين، وببذاءة أحياناً. وقد مثّل إعلان نتيجة الانتخابات التي خسرها ترامب ذروة هذا الاحتقان، حيث أعلنت مجموعة من مناصريه عدم اعترافهم بالنتيجة، قبل أن يتوجّهوا بأعداد كبيرة لاقتحام مبنى "الكابيتول"، وهو الحدث الذي نتجت عنه خسائر في الأرواح والممتلكات.
كان الاتهام الأول للرئيس المنتهية ولايته يتمثل في التحريض على العنف والإساءة لقواعد اللعبة الديمقراطية الراسخة. استطاع ترامب، على ما يبدو، الإفلات من التهمة، فمن الناحية القانونية، كان ذلك اتهاماً يصعب إثباته، حيث لم يجر توثيق دعوة صريحة منه إلى أنصاره للخروج أو الاعتراض أو استخدام العنف لإعادته إلى السلطة. وقد تعلق الاتهام الجديد، الذي شغل الناس على مدار الأسبوعيين الماضيين، بجريمة أخرى، ملخصها تعريض وثائق مصنّفة سرية للغاية لخطر الانكشاف، ما يدخل في إطار جريمة التجسّس، وهو ما أعلنته السلطات عبر نشر مذكرة تفتيش إبّان اقتحام مكتب التحقيقات الفيدرالي أحد مقارّ إقامة ترامب في ولاية فلوريدا.
القانون الأميركي لا يحصر التجسّس في التواصل مع جهات خارجية، ولكن مجرّد الاحتفاظ بوثائق رسمية خطيرة أو سرّية يدخل أيضاً في هذا الباب
ردة فعل ترامب على حادثة الاقتحام ومصادرة بعض الوثائق كانت اتهام المؤسسات الرسمية الأميركية بأنها مسيّسة، وأن هذه القصة تصبّ في صالح خصومه الديمقراطيين اليساريين. ذهب ترامب كذلك إلى حد القول إن مكتب التحقيقات الفيدرالي قد يكون زرع أدلة في بيته لتوريطه. وتذكّر هذه التصريحات بتصريحات سابقة لترامب نفسه، أيام رئاسته، كان يتهم فيها جهاز المخابرات الأميركي بالتآمر عليه من خلال تعمّد حجب معلومات عنه. كانت تلك هي الفترة التي بدأ فيها ترامب حربه مع مؤسسات العدالة، ومع كثيرين من رموز الدولة التي كانت تضغط في سبيل عقد انتخابات مبكّرة.
منذ الإعلان عن قضية الاقتحام، كان هناك جدل بين الأطراف المختلفة بشأن تفاصيلها، فمناصرو ترامب رأوا أن الوثائق المعنية ليست سرّية، لأن الرئيس هو من يحدّد ذلك، وقد سبق أن سحب منها ترامب ختم السرّية. على الجانب المقابل، رأى الفريق المناوئ أن ترامب لم يعد رئيساً، ولذلك لا يحق له الحديث عن التصنيف الوثائقي، كما لا يحق له الاحتفاظ بأي نوع من الوثائق الحكومية الخطيرة، لا سيما التي تتعلق بالمسألة النووية أو الأمن القومي.
في خضم هذه المناقشات، برز سؤال آخر: هل كان ترامب ملتزماً بالمعايير المعروفة لرفع السرّية؟ هذا سؤال مهم، لأنه قد يورّط الرئيس السابق ويعرّضه للمساءلة بتهمة التلاعب بالأمن القومي، علماً أن من الوثائق ما كان متعلقاً بعمليات أميركية أمنية خارجية، وبغيرها من الأمور بالغة الحساسية. ويمتدّ الاتهام ليشمل تساؤلاً عمّا إذا كان هناك إخفاء متعمّد من الرئيس السابق لأوراق مهمة بغرض سياسي.
الخطورة في الأمر أنّ القانون الأميركي لا يحصر التجسّس في التواصل مع جهات خارجية، ولكن مجرّد الاحتفاظ بوثائق رسمية خطيرة أو سرّية يدخل أيضاً في هذا الباب، وهو ما جعل موقف ترامب معقداً. والمتابع لوسائل الإعلام الأميركية يمكن أن يشعر بحجم انقسام الأميركيين بشأن كلّ ما يتعلق بترامب، فمن ناحيةٍ، يحظى الرئيس الشعبوي بتعاطف كثيرين من أنصاره المؤمنين بأن المؤسسة الرسمية الأميركية تحاول أن تشوّه صورته لمجرّد كونه سياسياً من خارج الإطار الكلاسيكي، وأن هذه المؤسسة ومن ينتمي إليها يعملون بجد لاختلاق الأسباب، بما يضمن إبعاده عن المنافسة.
حتى لو أعلن المشرّعون الجمهوريون اليوم بعض التعاطف مع ترامب، إلّا أنّهم لن يستطيعوا مساندته إذا ما ظهرت أدلة دامغة على إهماله أو تعريضه الأمن القومي للخطر
ومن الناحية الأخرى، هناك من يعبّرون عن وجهة نظر مختلفة، تعتبر أنّ دونالد ترامب ليس مجرّد مواطن عادي، بل رجل لديه قدرة كبيرة على التأثير الإعلامي والتلاعب بالحقائق، ولذلك يحذر بعضهم، على غرار وجهة النظر التي عرضتها مجلة ذا إيكونومست، من أنّ الإصرار على محاكمة ترامب ربما يؤدّي إلى تقويض النظام السياسي الأميركي. وربما تبدو وجهة نظر المجلة بعيدة قليلاً عن الواقع، لكنّها دافعت عنها، معتبرةً أنّه لا بد من توقع كلّ شيء حين يتعلق الأمر بترامب الذي اخترق أكثر من مرّة حدود الخيال السياسي.
يخوض دونالد ترامب الآن معركة قانونية، خصمه الأول فيها القضاء الأميركي ومؤسسات الدولة، والمفارقة تكمن في أنه يستعد، في الوقت ذاته، لخوض معركة انتخابية يترشّح فيها مرة أخرى لمنصب الرئيس. لا يمنع القانون الأميركي بشكل واضح ترشّح المشتبه بهم، ربما لأنه لم تكن هناك حالة مشابهة في التاريخ الحديث. بهذا، لن يكون هناك ما يمنع ترامب من أن يخوض معركةً على الساحتين، على الرغم من التناقض الظاهري في المسألة.
هل سيجد ترامب دعماً حتى النهاية من المشرّعين الجمهوريين؟ يبدو هذا مستبعداً، فحتى لو أعلنوا اليوم بعض التعاطف معه، إلّا أنّهم لن يستطيعوا مساندته إذا ما ظهرت أدلة دامغة على إهماله أو تعريضه الأمن القومي للخطر، وهنا سيترك الرجل وحيدًا ليواجه مصيره .. كلّ هذه احتمالات واردة، لكن الذين يعرفون ترامب عن قرب يرجّحون أنه سيفلت من هذه القضية، كما أفلت من قضية "الكابيتول" وكما أنّه لم يترك هناك أي أثر للتحريض المباشر، فإنّه في الغالب سيوفّر مبرّرات كافية، حينما يتعلق الأمر بهذه الوثائق.