هل لا تزال الانتخابات الليبية أولوية؟
تشترط اللعبة الديمقراطية في أي دولة السلم الاجتماعي والنزاهة للحصول على نتائج منطقية، وخصوصاً في الانتخابات التي تعطي للفائز الحق في أن يحكم وينفذ برنامجه في كل أرجاء الدولة. وفي حالات الدول التي تعيش نوعاً من الانقسامات السياسية والمناطقية والجهوية الواسعة، تصبح هذه الانتخابات غير ذات أهمية، لصالح إنقاذ البلد والمحافظة على سلمه الأهلي والاجتماعي وإصلاح مؤسساته وتوحيدها والتي تكون لها الأولوية.
ما يدفع إلى هذا القول قرب موعد الانتخابات الليبية، المقرّر عقدها في 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وما زالت شكوك بشأن إمكانية عقدها، وذلك في ظل مسألتين جوهريتين، يمكن لأي متابع للحراك العام المحيط بهذه الانتخابات، داخلياً كان أم خارجياً، أن يقف عندهما.
الأولى أنّ الخلاف بشأن هذه الانتخابات ما زال حادّاً وعميقاً بين المعسكرين التقليديين، معسكر شرق ليبيا ومعسكر غرب ليبيا وحتى داخلهما، وخصوصاً بعد اشتعال معركة الطعون واستخدام القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها لمنع بعض المرشّحين من الطعن في إجراءات منع ترشحهم، والتي كان آخر فصولها تطويق قوة عسكرية تابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر محكمة سبها في الجنوب لمنع القضاة من النظر في الطعن المقدّم من سيف الإسلام القذافي.
العبرة في استمرار العملية الديمقراطية وقطع الطريق على كل احتمالات العودة إلى الوراء. أي التسليم بأولوية السلم الاجتماعي والأهلي والاتفاق الداخلي على الديمقراطية
المسألة الثانية، إصرار المجتمع الدولي ودفعه نحو إنجاز هذه الانتخابات في موعدها المحدّد، في بلد يعيش كل أشكال الانقسام الداخلي، وأغلب مرشحيه لمنصب الرئاسة عاجزون فعلياً عن التنقل في أغلب أرجاء البلاد، ومرفوضون من قوى فاعلة على الأرض، ومرتبطون بقوى خارجية.
تأخذنا كل هذه المسائل إلى قراءة سليمة ومنطقية، جوهرها أنّ العبرة هنا ليست في إنجاز الانتخابات كعملية ديمقراطية تُوصل شخصا إلى تسلّم رئاسة الدولة في دولة مقسّمة سياسياً ومناطقياً وجهوياً، بل في استمرار العملية الديمقراطية وقطع الطريق على كل احتمالات العودة إلى الوراء. أي التسليم بأولوية السلم الاجتماعي والأهلي والاتفاق الداخلي على الديمقراطية التي تأتي نتيجة تعاقدات واتفاقات وثقافة سياسية لدى الشعب ونخبه، قوامها حق الاختلاف وضرورة قبول الآخر والعيش المشترك، في ظل قواعد لعبةٍ ملزمةٍ للجميع، فما تأسّس على ارتباك المواقف وتضارب المصالح لا يمكن أن يؤدي إلى إنجاز الحلول الملائمة، فالتسريع بإنجاز الانتخابات الليبية في ظل الانقسام الحاد وعدم اتفاق القوى السياسية والاجتماعية على قواعد اللعبة والتزامها بقبول النتائج، لن يفتح الطريق إلى الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، بل على العكس سيفتح الطريق على مرحلةٍ جديدةٍ من الصراع تجعل الليبيين يدفعون الثمن مجدّداً، ويعودون إلى كابوس الحرب والاقتتال الذي كان سائداً ما قبل اتفاق عام 2020، وسيعزّز كذلك التدخل الأجنبي واستمرار تدفق المليشيات والقوات الأجنبية المرتبطة بلاعبين إقليميين ودوليين متنافسين.
لن تكون القضية إجراء الانتخابات بقدر ما تكون ضمان احترام جميع الأطراف نتيجتها، وهذه المسألة غير مؤكّدة في الواقع الليبي
وبالتالي، واهمٌ من يعتقد أنّ الانتخابات في ظل الظروف والأوضاع الراهنة ستُنهي الأزمة الليبية، وأنّ الديمقراطية التي ستمثّلها صناديق الاقتراع ستأتي بالسلم الأهلي، فالمخاوف الأساسية في حال إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدّد ترتبط أساساً بالتهديدات التي صدرت عن أكثر من طرف ليبي فاعل في الأزمة الليبية بعدم قبول النتائج إذا ما فاز فلان أو علّان. مثلا، في حال فوز خليفة حفتر المحسوب على الشرق الليبي، لن يقبل الغرب الليبي بنتائج الانتخابات. وفي حال فوز عبد الحميد الدبيبة المحسوب على الغرب الليبي فإن الشرق الليبي المُسَيطر عليه من حفتر وعقيلة صالح لن يقبل بنتائج الانتخابات. ويزيد من تعقيد هذه المسألة أنّ لدى كل طرف من طرفي الصراع الفصائل والمليشيات والجيوش القادرة على تنفيذ تهديده وعدم التسليم بالنتائج. وبالتالي، لن تكون القضية هنا إجراء الانتخابات بقدر ما تكون ضمان احترام جميع الأطراف نتيجتها، وهذه المسألة غير مؤكّدة في الواقع الليبي. لذا، الأولى هنا، وقبل إجراء هذه الانتخابات، أن يتم عقد جلسات حوار وطني جامع بين كل مكونات الشعب الليبي، ومن جميع المناطق، تكون مقدّمة لإنهاء حالة الانقسام السياسي والجهوي والمناطقي، وتعمل، في الوقت نفسه، على توحيد المؤسسات المنقسمة وسحب السلاح من المليشيات والقوات غير النظامية وإخراج المرتزقة، إلى جانب صياغة قوانين انتخاب تحظى بقبول الجميع، مع وضع سقفٍ زمنيٍّ لإنجاز كل تلك المتطلبات، قبل البدء بتدشين مرحلة جديدة لعهد جديد يبدأ بانتخاباتٍ حرّة ونزيهة وشفافة، تحظى باعتراف دولي وقبول شعبي، وتفتح الآفاق لليبيا جديدة بعيدة عن التوترات والتجاذبات.
في المحصلة، يمكن القول إنّ للحفاظ على الدولة الوطنية الليبية ووحدة مجتمعها وسلمها الاجتماعي وسيادتها الأولوية الأولى قبل الحديث عن أي شيء آخر، فلا يمكن أن تنمو الديمقراطية في بيئة غير ناضجة. لذا لن يكون إجراء الانتخابات الليبية، بهذه الصورة الخالية من الحد الأدنى من التوافق والمشاركة الشعبية، كفيلاً بحل الأزمة، بل سيزيد من تأزيمها، وبذلك ستكون الانتخابات باباً جديداً للخلافات، بدل أن تكون حلاً لخلافاتٍ مزمنة، الأمر الذي يعني العودة إلى نقطة الصفر، ودخول البلاد في دوامة سياسية أعنف من تلك التي حصلت عام 2014.