هل فهم انقلابيو السودان الدرس؟

17 مايو 2022
+ الخط -

(1)
يدخل جنرالات السودان شهرهم السابع في السيطرة القسرية على أوضاع البلاد، عبر انقلابهم العسكري في إبعاد ممثلي الثورة المدنية التي أسقطت نظاما مستبدّا استمر ثلاثين عاما في السودان. يظل الجنرالات متمسّكين بادّعائهم أن ما قاموا به من سيطرة على السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية في الدولة هو لتصحيح مسيرة الثورة السودانية نحو تحقيق أهدافها بالديمقراطية والحرية والعدالة والسلام، غير أن هذه المزاعم لم توقف داخلياً الاحتجاجات الشعبية على انقلاب الجنرالات وتواصل المطالبة بإصرار على مدنية الثورة، وأن يكتفي الجيش وجنرالاته بالقيام بدورهم التقليدي في الدفاع عن البلاد من المهدّدات الخارجية، وأن يبتعدوا عن السيطرة السياسية على البلاد. أما خارجيا، فلم ينجح الجنرالات في إقناع المجتمع الدولي بأن ما قاموا به ليس انقلابا عسكريا، بل فقدوا بانقلابهم تعاطف الاتحاد الأفريقي وغيره من المنظمات الإقليمية، وبقية أطراف المجتمع الدولي التي بادرت بتجميد كل الإجراءات والتعهدات لدعم ثورة الشعب السوداني وإيقاف عملية إعفاء السودان من الديون. توالت الضغوط على جنرالات السودان بأن الحكم المدني هو الوحيد الذي يفتح عودة السودان إلى المجتمع الدولي. تُرى هل استوعب جنرالات السودان مرامي هذه الضغوط؟

ابتعد المجتمع الدولي عن نظام الجنرالات في الخرطوم، بل ونأت دول كثيرة بنفسها عن تواصل قياداتها مع جنرالات ذلك الانقلاب

(2)
ثمّة شواهد واضحةٌ على أن المجتمع الدولي ابتعد عن نظام الجنرالات في الخرطوم، ولم يبدِ اعترافا بشرعية ما قاموا به، بل ونأت دول كثيرة بنفسها عن تواصل قياداتها، بصورةٍ رسميةٍ مباشرة، مع جنرالات ذلك الانقلاب. ذلك ما عزّز عزلتهم، ورسّخ عجزهم عن الخروج من مأزق الانقلاب الذي تورّطوا فيه، ولم يتحسّبوا لتداعياته. لعلّ الملاحظة اللافتة أنّ قيادات البُلدان الأقرب للخرطوم، ومنهم من تعاطف مع الثورة السّودانية، وآخرون ممّن تعاطفوا مع الجنرالات، احتفظوا جميعهم بمسافةٍ تبعدهم عنهم. ذلك ملاحظ من أن الخرطوم لا تستقبل زوّاراً من تلك القيادات، بل تجد قادة من السعودية والإمارات، وهما من كبار المؤثرين على أوضاع السودان، قد اكتفوا بتكليف ممثليهم السفيرين في الخرطوم للتواصل مع جنرالات السودان. والملاحظ أن الأسبوع الأخير من شهر الصيّام شهد اتصالات كثيفة، أوّلها وفد دبلوماسي من ممثلي الاتحاد الأوروبي، جاء إلى الخرطوم والتقى الجنرالات، أكّد أفراده بصورة حاسمة أن استئناف التعاون مع السودان، بما في ذلك إعفاؤه من الديون، يتوقف على قيام حكومة ذات مصداقية، وأنهم راقبوا بقلق شروع الجنرالات في إرجاع عناصر النظام البائد إلى مختلف أجهزة الدولة السودانية، فيما يجري احتجاز قيادات سياسية لعبت دورا رئيسيا في إسقاط النظام البائد، كما عمدوا إلى اعتقال ومضايقة المعارضين للانقلاب الذي قام به الجنرالات في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. تزامنت تلك الزيارة مع تحدّث مساعدة وزير الخارجية الأميركية هاتفيا مع الجنرال عبد الفتاح البرهان، ردّدتْ المطالبة نفسها، فيما استقال مبعوثان اثنان كلّفا على التوالي لحلحلة استعصاءات منطقة شرق أفريقيا، وأزمة السّودان بوجهٍ خاص، مع أن الحرب الروسية الأوكرانية جعلت ملف السودان بعيداً عن عيون الخارجية الأميركية.

ظلت البلاد ترزح أكثر من ستة أشهر تحت سيطرة الجنرالات، بلا رئيس وزراء ولا مجلس وزراء، ولا إسناد سياسي أو دستوري

(3)
عكستْ هذه الرسائل ضيق المجتمع الدولي باستئثار جنرالات السودان بالسيطرة على أحوال تلك البلاد، وإصرارهم على قمع الاحتجاجات والتظاهرات المناوئة لهم والمنادية بمدنية الثورة، ومواصلة مجابهتها بعنفٍ مفرط يصل إلى حد إطلاق الرّصاص على المحتجين بدمٍ بارد. ليس ذلك فحسب، بل عمد الجنرالات إلى التشكيك في مساعي الأمم المتحدة لتيسير الحوار السياسي في السودان، بتكليفٍ من مجلس الأمن، وتلاه تهديدٌ صريحٌ بطرد رئيس البعثة الأممية بحجة تدخله في الشأن السوداني وتجاوزه التفويض الممنوح له. ويرى مراقبون في ذلك كله انفعالا سياسياً من الجنرالات يفسّره عجزهم في إدارة الدولة، وتلجلجهم المقصودٍ في المضي إلى توفير الأجواء المساعدة للحوار بين الكيانات السياسية الداخلية، بقصد حلِّ الأزمة التي تسبّب فيها ذلك الانقلاب غير المدروس.
(4)
أوّل مقتضيات حلّ الأزمة أن يبادر الجنرالات باتخاذ إجراءات شـجاعة لتيسير أجواء الحوار، منها رفع حالة الطوارئ المعلنة منذ انقلابهم في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 فورا، ثم التوقّـف عن قمع المحتجّين على الانقلاب، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والنية الصادقة لانسحاب القوات المسلحة من الساحة السياسية، ومعالجة التعقيدات التي تسبّبوا بها، والكفّ عن مساعي إعادة عناصر النظام الإسلاموي المباد لتسيير مؤسسات الدولة، غير أن هذه المتطلبات صارت محاور لتجاذب بين جنرالات الانقلاب أنفسهم. هنالك من بينهم من يسعى إلى إطلاق سراح السياسيين المعتقلين، وهنالك من يعارض. وهنالك من يسعى إلى عودة عناصر النّظام الاستبدادي المُباد، ومن بينهم من يعارض. وقد بدأت روائح الخلافات الشخصية تخرج إلى العلن من غرف القصر الرئاسي وقاعاته.
عيّن الجنرالاتُ كبار الموظفين في الوزارات، وكلفوهم بإدارة الأجهزة التنفيذية في الدّولة مؤقتا، بمسمّى وزراء مكلّفين، ولكنّهم، إزاء هذه التجاذبات وضبابية الصلاحيات، هم وزراء محتارون يفتقدون المرجعيّات الدستورية أو السياسية أو القانونية التي تساعدهم على القيام بما كلفوا به. ظلت البلاد ترزح أكثر من ستة أشهر تحت سيطرة الجنرالات، بلا رئيس وزراء ولا مجلس وزراء، ولا إسناد سياسي أو دستوري يبرّر المضي في ادّعائهم قيادة الفترة الانتقالية التي يفترض أن تنتهي بإقرار المسيرة نحو الديمقراطية والحريات، عبر دستورٍ ثابت يحقق مؤسسية الدولة السودانية.

إزاء الفراغ السياسي وتزايد عزلة الجنرالات، نشط أصحاب الأجندات الخاصة، وعبر كيانات غير رسمية، للتسلّل بغرض اصطيادِ أسـماكٍ من المياه السودانية العَكرة

(5)
بقاء الأزمة السّودانية معلّقة من دون حلّ طيلة الأشهر الماضية ترك البلاد في مهبّ رياح داخلية زادتْ من الاستعصاء، وسـدّت الأفق لأيّ اختراقٍ قد يفضي لاستعادة السّودانيين حقوقهم في وطنٍ معافى. أما الرّياح الخارجية، فذهب معها ذلك التأثير الإيجابي من تعاطف سياسي كان من المقدّر أن يعيد السّودان إلى أسرة المجتمع الدولي. إثر ذلك الانقلاب غير المدروس، تردّدتْ أطراف عديدة في المجتمع الدولي، ونأت بنفسها عن التواصل مع جنرالات الخرطوم، لخشيتها من أن يمنح ذلك التواصل اعترافاً بشرعيةٍ لا يستحقونها.
ولكن إزاء هذا الفراغ السياسي وتزايد عزلة الجنرالات، نشط أصحاب الأجندات الخاصة، وعبر كيانات غير رسمية، للتسلّل بغرض اصطيادِ أسـماكٍ من المياه السودانية العَكرة، وأيضاً الثمين من المعادن في أرضها وجبالها. تراوح السفارات الأجنبية في الخرطوم بين مراكز الناشطين السياسيين، كبارهم وصغارهم من الكيانات أو الأحزاب، فلا تردعهم عن ذلك عيون الأجهزة الأمنية السودانية، وذلك واجبها، غير أن هذه العيون منشغلة بملاحقة المتظاهرين والمحتجيـن على انقلاب الجنرالات.
ولأنّ الأجهزة السودانية السـيادية العليا ليست في كامل قدراتها، تجد قيادات عليا تسارع للاستجابة لدعوات رسمية من رؤساء وأمراء دولٍ شقيقة، ولكنها أشبه بالاستدعاءات المهينة، لا تعكس تقديراً لقيادات الدولة السودانية، أياً كان لون صبغتها مدنية أو عسكرية. تابعنا رموزا سودانية سـيادية عالية يحلون ببعض مطارات دول شقيقة فيستقبلهم من هو أدنى منهم درجة في المستوى السياسي والمراسمي. تسمع عن مساعدة وزير الخارجية الأميركي تتجاوز وزير الخارجية المُكلف، لتهاتف أكبر واحدٍ من جنرالات الانقلاب في الخرطوم مباشرة، لتُملي عليه اشتراطات أميركية مطلوبة، منها قيام حكم ذي صبغة مدنية وحكومة ذات مصداقية.

فيما تتعدّد مظاهر الانفلات الأمني، والمذابح التي شهدها غرب دارفور أخيرا، فإن المشهد في السودان هو لدولة آيلة إلى فوضى لا يُعرف لها مدى

(6)
تسمع عمّن يزور الخرطوم فيلتقي في تمثيلية فجّة الإخراج بوزيرٍ سوداني مُكلّف، فيظن الأخير أنه استقبل مبعوثين اثنين من المملكة السعودية. تغضب سـفارة المملكة في الخرطوم، وتصدر نفياً قاطعا بأن اللذين التقاهما الوزير المذكور ليسا سعوديين ولا علاقة لهما بالمملكة، بل هما من الجنسية السودانية. تسمع عن وفد وصفته الصحافة السودانية بأنه مصري شعبي قادم من القاهرة، ومن دون أن تُعرف الجهة في مصر التي بعثت به، فتفتح له الأبواب، لا ليلتقي برصفاء له، بل ليجتمع رسميا بقيادات سياسية وآخرين يُظن أنهم مسؤولون سودانيون كبار. مع تقدير حسن النيات، فإن المفاتيح الحقيقية لما بين مصر والسودان بأيدي قيادات البلدين. وليس من خبث في طرح سؤال كم عدد المرات التي زار فيها جنرال السودان القاهرة، ثم متى زار الرئيس المصري الخرطوم آخر مرة؟
يبدو أن الجنرالات لا يمسكون بالأمور بعد انقلابهم العسكري في السودان، بالصورة التي تمكّنهم من إدارة الدولة وأجهزتها التنفيذية، بل صارت أمور الدولة تدار بما يشبه الانفلات السياسي، وبتسيّبٍ وعشوائية لا مثيل لها.
(7)
وفيما تتعدّد مظاهر الانفلات الأمني، والمذابح التي شهدها غرب دارفور أخيرا، فإن المشهد في السودان هو لدولة آيلة إلى فوضى لا يُعرف لها مدى، وجنرالات الخرطوم باقون متحكّمون، ولربّما الأنسب أن نقول متشبثين بصورة مرضية، بكراسي الحكم، خشية أن يكون في اختفائهم من المشهد، وفق أي تسويةٍ في الأفق، ما قد يمهّد لمحاسباتٍ قد تطاول من تسبّب في انهيار دولة اسمها السودان.