هل سمعت عن ثورة تعمل بالغاز الطبيعي؟
تحت عنوان "مصر اشترطت على تركيا الاعتراف بـ30 يونيو .. وأنقرة وافقت"، نشرت مواقع مصرية، نقلًا عن قناة العربية من دبي، ما وصفتها أسرار وكواليس المفاوضات التركية المصرية المنعقدة في القاهرة، منذ يومين، للنظر في مسألة التطبيع بين البلدين.
المعلومات الدقيقة في هذا الموضوع شحيحة للغاية، وما يرشح منها خاضعٌ لميول النوافذ الإعلامية وأهوائها، حيث الكل يغني على ليلاه، ما بين صحف ومواقع مصرية يستبدّ بها الفرح فتتحدّث عن الركوع التركي، وبين وسائل إعلام دولية محايدة تنشر بتحفظ، وإعلام تركي يلتزم الصمت المطبق.
قناة العربية، التي تبث من الإمارات، تعجّلت ونشرت على لسان مصادر، مجهولة بالطبع، "في ظل التودّد التركي لمصر ومحاولات استئناف العلاقات بين البلدين، أفادت مصادر "العربية" بأن القاهرة اشترطت على أنقرة الاعتراف بثورة 30 يونيو، فوافقت الأخيرة ما يعد ضربة قاصمة لجماعة الإخوان".
الفرح الطفولي دفع القناة إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك، فقالت إن مسؤولين أتراكًا أكدوا للجانب المصري أن الصورة بشأن "30 يونيو" لم تكن واضحة، بسبب عدد من المستشارين الأتراك الذين وصفوا الصورة بشكل خطأ مؤكدين احترامهم لإرادة المصريين. ثم زادت: كما أبلغ مسؤولون أمنيون أتراك القاهرة بأن فترة حكم الإخوان كان بها العديد من الملاحظات وأنهم مارسوا العنف.
القناة نفسها (العربية) عادت بعد أن التقطت أنفاسها، وهدأت بعض الشيء، ونشرت القصة كالتالي: "مصر تتمسّك بشروطها.. وتركيا: نريد عودة العلاقات.. كذلك طلبت من تركيا الاعتراف بثورة الـ30 من يونيو. في المقابل، عرضت أنقرة استقبال وفد مصري في أنقرة لاستكمال المباحثات، مطالبة بإعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية مع مصر".
بالطبع، شتان بين الروايتين، الأولى والثانية، واللتين يفصل بينهما ثمان ساعات و11 دقيقة على لسان القناة ذاتها، غير أن ذلك التفاوت لا ينفي أن تغييرًا هائلًا وقع وينمو بين القاهرة وأنقرة، وأن هذا التغيير مصدره بالأساس أنقرة وليست القاهرة التي تبدو محتفظة بكامل أزيائها الاستبدادية، متمسّكة بطغيانها وفاشيتها إلى أبعد مدى، بالنظر إلى ما يجري على الأرض، حيث استئناف تنفيذ أحكام إعدام بالجملة، وترويج مشروعات قوانين أمام البرلمان تستهدف استئصال "الإخوان" من الحياة المصرية، على طريقة اجتثاث "البعث" بعد سقوط بغداد.
لكن ما يلفت النظر ويستحق التوقف عنده هنا هو لهاث نظام عبد الفتاح السيسي خلف شهادات اعتراف بما حدث في 30 يونيو/ حزيران 2013 وتسميته "ثورة"، الأمر الذي يعيد التأكيد على أن هذا النظام مسكون بهاجس أنها تشبه "طفل الخطيئة" الذي يبحث له عن اعتراف من الجميع.
بحسب المنشور في المواقع المصرية، نقلًا عن "عربية دبي"، تبدو هذه المسألة أهم بنظر عبد الفتاح السيسي مما سواها من مشروعات غاز أو صفقات اقتصادية، ولو حسبت عدد المرات التي تحدث فيها السيسي عن ثورة يناير 2011 بوصفها مؤامرة، مقابل انقلاب 2013 باعتباره ثورة، ستكتشف عمق الخواء الكائن في فكره، والشعور الذي يلاحقه بأن كل هذه القوة المفرطة في سحق المعارضين، وكل هذه الرعاية من الأطراف الدولية والإقليمية، وكل هذه الحروب الإعلامية العنيفة، لم تنجح في تغيير قناعة الجميع، بمن فيهم الذين يدعموه لأسباب براغماتية، بأنه يحكم بموجب انقلاب عسكري دموي.
يريد السيسي، بأي شكل وبأي ثمن، انتزاع شهاداتٍ من هنا وهناك بأن "30 يونيو" ثورة، وقد حاول في هذه المسألة منذ اليوم الأول، فكان استعماله الوجوه الثورية المشهورة، وملاطفتها ومداعبتها ومشاركتها السلطة في البدايات، قبل أن يتخلص من أصحابها تباعًا.
صحيحٌ أن ثورة يناير تبدو مهزومة ومحطّمة، إلى حد وصفها بالميتة، إلا أن ذلك كله لم ينتزعها من ضمير العالم، ولم يثبت خطيئة "30 يونيو" مكانها، وهي مسألةٌ محكوم عليها بالفشل، مهما فعل السيسي، ومهما تنازلت أنقرة، لأسباب كثيرة، وبسيطة للغاية، أهمها أن الثورة الحقيقية لا تتسول اعترافا من أحد، ولا تبتز أحدا لكي يعترف بها، ولا تجيد أعمال التسويق وحملات الدعاية.
الثورة لا تلهث خلف الأنظمة لكي تعترف بها، أو تنافق الحكومات أو تتغزّل فيها أو تطلب العون منها، بل العكس هو الذي يحدث، أو بالأحرى حدث بالفعل، فعندما تكون هناك ثورة شعبية حقيقية، نقية وبيضاء، يبادر الجميع بعرض صداقتهم عليها، ويسارعون إلى التحدّث عنها ومعها، باحترام، وكأنهم يخطبون ودها ويسعون للحصول على اعتراف منها.
هل سمعت عن ثورة دخلت في صفقات سياسية تجارية اقتصادية مع حكومة أجنبية، وكان أول شروطها المطروحة على مائدة التفاوض أن تعترف تلك الحكومة بها؟ هل سمعت عن ثورة ترسل وفودا للدعاية والتسويق لها لدي الحكومات الأجنبية؟
هل سمعت عن ثورة تعمل بالغاز الطبيعي؟