هل تلعب الصين بالنار؟

27 يونيو 2022
+ الخط -

التوتر المتزايد في شرق آسيا بين الولايات المتحدة والصين، ويتخذ من مسألة ضم الصين جزيرة تايوان شعاراً رئيسياً في المرحلة الحالية، ليس وليد السنة الأخيرة التي قرّرت فيها إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، اعتبار الطموحات الصينية قضيتها الرئيسية وشغلها الشاغل، بل هي بصورة أكثر شمولية نتيجة تحوّل الصين في عهد رئيسها الحالي، شي جينغ بينغ، من التركيز على التنمية الداخلية إلى السعي لفرض نفوذها الاقتصادي والسياسي خارج الحدود، ابتداءً من محيطها الإقليمي في شرق آسيا ووسطها، وصولاً إلى غرب آسيا وأوروبا وأفريقيا، تحت شعار "بناء المستقبل المشترك للبشرية" من خلال مبادرة الطريق والحزام، القائمة على ضخ استثمارات صينية هائلة في البنى التحتية للدول المشاركة فيها.
على مدار العقدين اللذين سبقا تولي الرئيس شي مقاليد السلطة في بكين، أي منذ تخلي زعيم الصين وصانع نهضتها الحديثة، دينغ شياو بنغ، عن السلطة عام 1992، وهي الفترة المتزامنة مع استقرار النظام العالمي أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، اتّبعت واشنطن سياسة الاحتواء تجاه الصين. ساعد في ذلك أن الصين انغمست في التركيز على التنمية الاقتصادية من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية إليها، وتوسّعها في التجارة الدولية التي كانت متناسبةً تماماً مع معايير العولمة ومنظماتها الدولية التي تحرّكها الولايات المتحدة. اكتفت واشنطن بذلك "الاحتواء"، بينما كانت بكّين تتحوّل عملياً إلى شكلٍ من اقتصاد السوق الذي تديره الدولة، ويسمّيه الصينيون "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، بصورةٍ كانت تبشّر بالنسبة إلى الغرب بتحوّل الصين من دولة اشتراكية شمولية، تتعارض قيمها مع "النظام العالمي" الذي تتزعمه أميركا، وتريد الإبقاء عليه شكلاً نهائياً للسياسة الدولية، إلى بلادٍ تندمج في النظام العالمي حتى لو رفعت شعاراتٍ متعارضةً معه، بصورةٍ تنسحب ليس فقط على قيم إدارة الدولة، بل كذلك على المجتمع الصيني الذي بات يعرف شكلاً من الطبقية والثراء لا تتواءم مع الفلسفة الماركسية، وهو ما كان يُنظر إليه أحياناً في الغرب فاتحة للتحوّل إلى الليبرالية السياسية مستقبلاً بضغط من المجتمع، وخروج الصين تماماً من العباءة الاشتراكية.

باتت الصين تُظهر طموحاتها الخارجية من خلال إبرام اتفاقيات اقتصادية مع دول العالم عبر مبادرة الطريق والحزام التي تمثّل عنوان عهد الرئيس شي

افتتح الرئيس الصيني شي عهده باستعراضٍ عسكري مقلق، هو الأضخم الذي تشهده الصين منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك بمناسبة العيد الوطني في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2015. تغيّرت الصين منذ ذلك التاريخ، وباتت تُظهر طموحاتها الخارجية من خلال إبرام اتفاقيات اقتصادية مع دول العالم عبر مبادرة الطريق والحزام التي تمثّل عنوان عهد الرئيس شي، ما يعني طرح نفسها بديلاً للنظام العالمي القائم الذي تعتمد فيه معظم الدول، ومنها الدول النامية على المؤسسات النقدية والتجارية "الدولية" التي تحرّكها الولايات المتحدة، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
وهكذا، انتقلت الولايات المتحدة من فلسفة "الاحتواء" في علاقتها مع الصين إلى أسلوب الحصار والضغط الاقتصادي والسياسي. بدأت بوادر السياسة الأميركية الجديدة في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، فاشتعلت أزمة الجيل الخامس من الإنترنت، حين سعت الولايات المتحدة لإقناع حلفائها بأن السماح للشركات الصينية بإنشاء البنى التحتية الخاصة بالتقنية، ينطوي على مخاطر أمنية بالغة، لأن الحكومة الصينية هي من يسيطر على تلك الشركات. ثم فرضت إدارة ترامب قيوداً جمركيةً واسعةً على البضائع الصينية للتأثير بقدراتها التجارية. في عهد جو بايدن، بدا أنّ الولايات المتحدة تأخذ التهديد الصيني بشكل أكثر جدّية، ما دفعها إلى الانتقال من الضغط التجاري إلى السياسي ثم العسكري، وهذا ما يفسّر لجوء الولايات المتحدة لتنظيم حلفائها في آسيا والمحيط الهادئ: اليابان وأستراليا والهند، ومعها كوريا الجنوبية، للوقوف موقف العداء الواضح من الصين، بدعوى أنّ الصين تمثل خطراً جيوسياسياً داهماً، ليس فقط بسبب إبرامها اتفاقيات اقتصادية واسعة تربط مصالح دولٍ عديدة في آسيا والمحيط الهادئ بها، ولكن أيضاً لطموحاتها العسكرية في المنطقة، وفي مقدمتها، وفق وجهة النظر الأميركية، ضم جزيرة تايوان إلى البرّ الصيني بالقوة العسكرية، فضلاً عن السيطرة على مضيق تايوان الذي تعدّه الصين مياهاً إقليمية، بينما تعتبره الولايات المتحدة وحلفاؤها مياهاً دولية، كذلك فرض نفوذها العسكري على امتداد بحر الصين الجنوبي.

الصين وروسيا لا تملكان الأدوات الكافية لتغيير النظام العالمي القائم بشكل مؤثر، في المدى المنظور

الصين، التي ردت على المساعي الأميركية في المنطقة بعنفٍ لفظي غير مرّة، مؤكّدة حقها في استعادة تايوان ولو بالقتال، كذلك من خلال التقارب العلني مع روسيا في عدّة ملفات اقتصادية وعسكرية، ليس من مصلحتها أن تلعب بالنار في مواجهة الولايات المتحدة، لأن ذلك سيعني تهديد منجزاتها الاقتصادية الهائلة، تماماً كما أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة إشعال مواجهة عسكرية ضروس في شرق آسيا.
وفق هذا المنطق، فإن تقدّم الصين خطواتٍ باتجاه المواجهة العسكرية، غرضه إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن سياستها العدائية، والعودة إلى الحوار والتفاهم. كذلك فإن غرض إجراءات الولايات المتحدة التصعيدية ضد الصين في شرق آسيا والمحيط الهادئ، التمهيد لحوار تقدّم فيه الصين وروسيا تنازلاتٍ سياسية، بشكلٍ يضمن عدم التأثير بأحادية القطبية الأميركية، وبالنظام العالمي القائم من نواحيه السياسية والاقتصادية والنقدية. وقد اتخذ الطرفان خطوة عملية بهذا الاتجاه عبر إعلان تنظيم محادثة هاتفية بين الرئيسين بايدن وشي، خلال الأسابيع المقبلة، وتصريح إدارة بايدن بعزمها إلغاء القيود الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على الواردات الصينية.
مؤكّد أنّ الطرفين لا يلعبان بالنار، وأنهما يحسبان خطواتهما بدقّة، ويبدو أن الولايات المتحدة ستكون أكثر قدرةً على فرض شروطها السياسية من خلال الحوار، نظراً إلى تفوقها الذي تدركه الصين جيداً على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهو ما يجعل المواجهة العسكرية مستبعدة من جهة، ويقود إلى الحفاظ على نفوذ الولايات المتحدة الدولي وقطبيتها الواحدة من جهة ثانية، إذ من المؤكد أنّ كلّاً من الصين وروسيا لا تملكان الأدوات الكافية لتغيير النظام العالمي القائم بشكل مؤثر، في المدى المنظور.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.