هل تكتفي انتفاضة السويداء بعلمها من خمسة ألوان؟
يعود الخلاف بشأن العَلَم السوري إلى مطلع يونيو/ حزيران من العام 2011 حين اتفق المعارضون السوريون المشاركون في مؤتمر أنطاليا على رفع علم الاستقلال، علمِ الجمهورية الرسميّ بين عامي 1932و1958، وكذلك بين عامي 1961 و1963، لكن ذلك لم يمنع من مشاهدة العلم الحالي للبلاد، وهو يتجوّل بطلاقةٍ داخل تظاهرات الربيع السوري المناهض للسلطة القائمة، على الأقل بعد مرور شهر من انتهاء مؤتمر أنطاليا، حين اجتمع تحت علمٍ كبير للنظام (هكذا صار اسمه) آلافُ المتظاهرين في مدينة حماة يومَ جمعةٍ حملت اسم "ارحل"، وهو على أيّ حال علمُ الجمهورية المتحدة (1958-1961)، ثم صار العلمَ المعتمد اعتباراً من 1980، العلم الذي تلا تحته المقدّم حسين هرموش بيان انشقاقه عن جيش النظام، أول ضابط يترك الخدمة العسكرية، ويلتحق بالثورة الناشئة وقتذاك.
ويلامس الخلاف في مضامينه مقارباتٍ أيديولوجيّة، إذ أفسح المجال أمام السوريين للاختيار بين ناصيتين مختلفتين كلّياً، ومن ثمّ التمترس وراءَ إحداهما، فإما ناصية النظام بما تمثّله من احتكارٍ كامل للسلطة، وتعطيلٍ للسياسة، وميلٍ مفرط لمجابهة المجتمع بالعسكر والأمن، أو ناصية المعارضة بما فيها من تطميناتٍ سياسيّةٍ مستقاةٍ بصورة أساسيّة من أطروحات الثورة السورية، وآمالها بالانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي، فيه تداول سلميّ للسلطة، وفيه دولة قانون ومواطنة بحق.
بعد مرور سنوات قليلة على بدء الثورة السورية ضدّ بشار الأسد، استقطب كلُّ علمٍ إلى مجاله الحيويّ راياتٍ خارجيّةً كثيرةً تحالفات معه
كان العلمان إذاً يقسمان الفضاء الاجتماعيّ للسوريين إلى انتماءين متضادّين، الأول يقبل النظام السياسي القائم، والثاني يرفضه ويريد استبداله بآخر. وتدريجياً صار كلُّ انتماءٍ بمثابة هويةٍ تحاول منهجيّاً إقصاء الهويّة الأخرى، أو تسخير مكوّناتها كهويةٍ معادية، وفي هذا مجازفة أنطولوجيّة، تبدو كأنها تبحث في صوابية تقبّل كينونة الآخر، من عدم تقبّلها. لكن وبعد مرور سنوات قليلة على بدء الثورة السورية ضدّ بشار الأسد، استقطب كلُّ علمٍ إلى مجاله الحيويّ راياتٍ خارجيّةً كثيرةً تحالفات معه، واستعْدَت، في المقابل، علم الضفة الأخرى، وما التحق به من رايات، إلى درجة أنّ تلك الرايات صارت، بعد زمن وجيز، قادرةً على اقتسام الجغرافيا السورية بلا إطراءٍ أو مواربة لأحد. وتدريجياً أيضاً، تراجع علم الاستقلال، أي علم الثورة، خطواتٍ إلى الوراء على حساب ازدهار راياتٍ حالفته بادئ الأمر مثل جبهة النصرة، وجيش الإسلام، وفيلق الشام، وجيش الفتح، ولواء التوحيد، وجبهة أحرار سورية، والجبهة الإسلامية، وغيرها، لكنها كانت تبحث عملياً عن استفاضةٍ يقينيةٍ لوجودها، تلك التي من خلالها تمسك بحيّزٍ واقعي من الأرض وتمارس السلطةَ عليه، وهذا ما استندت إليه أيضاً الراياتُ التي وثّقت تحالفاتٍ مع علم النظام السوري، علمِ الوحدة، وعلمِ البلاد الرسمي منذ العام 1980، ثم جاءت واستقرت على أرضه، مثل مليشيا حزب الله اللبناني، وحزب الله العراقي، ومليشيا أبو الفضل العباس، وكتائب الإمام علي، وكتائب سيّد الشهداء، ومليشيا فاطميون، وزينبيون وغيرهم الكثير، وكلها جعلت علمَ النظام السوري يتراجع خلفاً، مُنسحباً، مُفسحاً الطريق لها لأجل أن تستفحل حيث تشاء، وتعيد إنتاج الديموغرافيا السورية بمعايير إثنيّة حسبما ترتئيه، وطباقاً لمقاس المرحلة المقبلة من عمر البلاد، فمعظم رايات المليشيات التي ارتادت علم النظام السوري، ومحتواه السياديّ هي مليشياتٌ شيعيّة ذات ارتجاعٍ عقائدي الهوى والمنطق، تريد تزوير سورية، وتزويدها باستنتاجات تخصُّ ضرورة اعتناق ولاية الفقيه، والإخلاص لفروضها التوسعيّة.
صار من السهل اختزال سورية الثورة، وسورية السلطة إلى الحدود القصوى، وتلخيصُ ذلك ببلدٍ بات يعيش على تخوم تناقضٍ جسيم لمصالحَ دولية وإقليمية
جرى رجمُ سورية إذاً بكلّ تلك الرايات، خلال سنوات فكّ طلاسم سبب ديمومة بشّار الأسد ونظامه، ثم جرى رجمها أيضاً بأعلام دول احتلالٍ مباشر، مثل إيران وروسيا والولايات المتحدة، وتركيا، وجرّها هذا إلى كثير من التشظّي والتضاؤل، وجعلها تقبل القسمة على نفسها وفق خوارزمياتٍ محدّدة مسبقاً. فصار من السهل اختزال سورية الثورة، وسورية السلطة إلى الحدود القصوى، وتلخيصُ ذلك ببلدٍ بات يعيش على تخوم تناقضٍ جسيم لمصالحَ دولية وإقليمية، وما رافقه من انخفاض منسوب السيادة داخل أروقة قرار النظام والمعارضة على السواء، وهذا تحقّق أيضاً بالتزامن مع تناقص سيادة العلمين، علم الثورة وعلم النظام على الجغرافيا السوريّة التي اقترضاها من رصيد الناس ومنذ البداية.
وهذه الانتفاضة الحالية في السويداء استيقظت إلى جوار علم الموحّدين الدروز، بألوانه الخمسة: الأخضر في الأعلى، وتحته الأحمر، ثم الأصفر، فالأزرق، يليه الأبيض، وهو ترتيبٌ لونيّ يدلُّ على انبثاق حدود التكوين والخلق الخمسة، حيث العقل الكلّي في الأعلى، تحته النَفْس الكليّة، ثم الكلمة، ثم السابق للكلمة، وأسفله التالي للكلمة. وظلّ هذا العلم ملتصقاً بكلّ مظاهر الاحتجاج التي تعلّقت بالفضاء الاجتماعي لأبناء السويداء طوال شهر أغسطس/ آب الماضي، فلم تخرج مظاهرةٌ واحدة إلا ورافقها هذا العلم، سواء في الوقفات الاحتجاجية المسائية التي سكنت معظم الريف الدرزيّ بلا انقطاع، أو داخل تظاهرة المدينة المركزيّة، بتوقيتيْها الصباحيّ والمسائيّ. وبالإمكان أيضاً ملاحظة راياتٍ عديدة ترتفع إلى جوار علم الدروز، سيما في تظاهرات يوم الجمعة، وتلك راياتٌ تحمل أسماء عائلاتٍ محلّية، أو قرى، وتسمّى "بيارق"، ومنها أيضاً رايات الفصائل المسلّحة، ولعلّ في ظهورها ذاك إشارة إلى طبيعة مكوّنات الحراك الحالي للدروز جنوب سورية، حيث لم يرتفع علم الاستقلال، أو علم الثورة إلا مرّتين، ارتفع في إحداهما علم النظام أيضاً إلى جوار علم الثورة، وهذا برّرَ أن تسترسل أسئلةٌ كثيرة بشأن بنية الحراك الراهن في السويداء، وعلاقة العلم الدينيّ للدروز بانتفاضتهم القائمة، وهي التي جاهرت بشعارات الثورة السورية من رحيل هذا النظام ورأسه عن حياة السوريين، من دون أن تعتمدَ علم الثورة رايةً لها.
لا يجد الدروز ضيراً من أن تحمل انتفاضتُهم شعاراتِ الثورة السورية عام 2011، وأن تحمل، في الوقت نفسه، علمهم الدينيّ
ربما هذا الذي رمى حراك السويداء بشكوكٍ كثيرة منذ بدأ، ثم حاصرته وكأنها مأزقهُ المبكر، فجعلت النظام القائم، ومن خلال متطوعين كثيرين، إلى الحديث باسمه، يتهمون انتفاضة الدروز بأنها تمهيدٌ سياسيٌ مفتعل للانفصال عن سورية، مدلّلين على صوابية استنتاجهم ذاك بأن العلم الذي ترفعه تظاهرات الحراك دينيّ، إثنيّ الإملاءات والدلالات، بالرغم من أن مظاهرات إدلب المؤيدة لانتفاضة السويداء رفعت علم الدروز بألوانه الخمسة مرّاتٍ عديدة. ومن جهةٍ أخرى، لا يجد الدروز ضيراً من أن تحمل انتفاضتُهم شعاراتِ الثورة السورية عام 2011 ، وأن تحمل، في الوقت نفسه، علمهم الدينيّ، إذ لا يجدون في ذلك تناقضاً قد يُؤخَذ على محمل الجدّ، معتبرين أن علمهم رمزٌ دينيّ جامعٌ لهم، وإن كان ذلك سبباً لتقوقع حراكهم داخل الجغرافيا التي أنبتته.
أيضاً، لم تستطع انتفاضة السويداء استخراج صدى لها، لا من العاصمة دمشق، ولا من حمص، ولا من مدن الساحل السوري، وهذا جعلها رهينةَ حبسٍ جغرافيّ يصعب النفاذ منه، فالمناطق الدرزية التابعة إدارياً لريف دمشق، مثل مدينتي جرمانا وأشرفيّة صحنايا، التزمت الصمت السياسي، ولم تُبدِ تأييداً علنياً لحراك السويداء، ولم تَخرُج منها أيُّ مسيراتٍ مؤيدة لذاك الحراك، وهذا سيزيدُ من المشقّة التي يكابدها حراكُ المحافظة السوريّة الجنوبيّة الصغيرة، التي كانت في الأمس القريب امتداداً شاسعاً للصمت السياسي حيال فظائع النظام السوري بحقّ مواطنيه، فهل تكتفي انتفاضة السويداء الحالية بعلم من خمسة ألوان لأن تُوقظ سورية من صمتها المديد؟ أم ستكتفي بالتحصّن جنوباً، وكأن ذلك قدرها الذي سيقودها إلى مزيدٍ من العزلة، وربما إلى إدارة ذاتيّة لشؤونها المحلّية؟