هل تغرق روسيا في المستنقع الأوكراني؟
لا مؤشّرات تُنبئ بأن الحرب الروسية الأوكرانية ستضع أوزارها قريبا، فبعد حوالي أربعة أشهر على اندلاعها، تبدو روسيا، التي كانت البادئة بإعلان الحرب، في وضع جيوسياسي لا تُحسد عليه. على الرغم من التقدّم النسبي الذي أحرزته قواتها في شرق أوكرانيا، إلا أن ذلك لا يؤثر على المسار العام للحرب، في ظل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا. وهو ما يجعل الكرة في ملعبها عسكريا وسياسيا؛ ذلك أن إصرارها على مواصلة الحرب من دون أفقٍ سياسي واضح لمسارها يحولها إلى عبء اقتصادي وسياسي يصعب تحمّله على المدى البعيد. وفي الوقت ذاته، يمثل انسحابُها، وهو مستبعد على الأقل حاليا، إقرارا بفشلها في تحقيق أهدافها من غزو أوكرانيا. ويُنبئنا تاريخ الحروب الحديثة أنه كلما طال أمد الحرب تصبح عبئا على الطرف الذي أطلق شرارتها الأولى. ولا تشذّ الحرب الروسية الأوكرانية عن هذه القاعدة، فمع اتساع رقعتها، وإخفاق موسكو في حسم جبهاتها الرئيسة، وارتفاع كلفتها الإنسانية والأخلاقية، وتضاؤل فرص الحل الدبلوماسي، تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة مرهقة للروس على مختلف الصعد، ما يعني فشلهم في تحقيق الهدف الاستراتيجي الذي شنوا من أجله الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط المنصرم: تغيير بنية النظام الدولي من خلال تعديل ميزان القوى الحالي الذي يرونه لصالح الغرب.
لا يعني ذلك أن روسيا لم تحقق أي مكاسب من الحرب. بالعكس، هناك مكاسب على قدرٍ من الأهمية الاستراتيجية نجحت في تحقيقها، أبرزها حصر نطاق الحرب داخل التراب الأوكراني، على غرار استراتيجية واشنطن التي تقضي بخوض حروبها بعيدا عن التراب الأميركي. لكن إخفاقها في السيطرة على العاصمة كييف، وافتقادها استراتيجية واضحة في شرق أوكرانيا، وطول أمد الحرب، ذلك كله يربك حساباتها ويجعل هدفَها، بإعادة التموضع ضمن معادلات القوة والنفوذ، صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلا. كما أن سعيَ الرئيس فلاديمير بوتين إلى توظيف إرث الحرب الباردة لا يبدو أنه يسعفه في حسم الحرب لصالحه، بقدر ما سيطيل أمدها ويجعل قواته تغرق أكثر في المستنقع الأوكراني، وذلك بسبب اختلاف الشروط الجيوسياسية التي تدور في نطاقها الحرب الحالية عن تلك التي حكمت حروبَ الحرب الباردة. وقد بدا عدمُ فعالية التوسُّل الروسي بإرث الحرب الباردة واضحا في حرب القرم (2014)، حيث نجح الغرب في إيهام الروس بأنه قد سلّم بالأمر الواقع في شبه جزيرة القرم، وهو ما مثّل استدراجا لهم ليبحثوا عن كيفيات للتمدّد الاستراتيجي في محيطهم الإقليمي.
في السياق نفسه، لا يبدو الغزو الروسي لأوكرانيا بعيدا عن أزمة كامنة في المشهد السياسي الروسي، بعد أن أصبح بوتين يحتكر كل السلطات، ويتحكّم في مفاصل الدولة، في إعادة إنتاجٍ، لا تخلو من دلالة، للإرث السياسي السوفييتي والنزعة القومية الروسية. وجاءت التعديلات الدستورية (2020) لتشرعن ميزانَ قوى ما فتئ يختلُّ لصالح الرئيس الروسي. وتفيد استطلاعات رأيٍ بأن أغلبية الروس يعارضون النزعة التوسعية لبوتين، سيما أن هناك روابط عرقية واجتماعية وثقافية تجمع الشعبين، الروسي والأوكراني، والتي تهدّد الحرب الحالية بتفكيكها وتحويلها إلى موارد لتغذية مشاعر الكراهية بينهما وإطالة أمد الحرب، هذا على الرغم من أن بعض الروس يحمّل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، مسؤولية جرّ البلدين إلى مواجهة عسكرية مفتوحة على كل الاحتمالات، بسبب عجزه عن اتباع سياسةٍ أكثر توازنا وعقلانية كان يمكن أن تجنّبهما حربا لن تبقي ولن تذر.
في الختام، لن تغرق روسيا وحدها في المستنقع الأوكراني، ذلك أن الدول الغربية التي لا تتوقف عن تقديم مختلف أشكال الدعم لأوكرانيا مقبلة على مواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للعقوبات المفروضة على موسكو، بما يعنيه ذلك من أزمةٍ اقتصاديةٍ كبرى تلوح معالمها في الأفق.