هل تدخل فرنسا الحرب الأوكرانية؟
فرنسا الرسمية مُنخرطةٌ بالفعل في الحرب الأوكرانية، فموقفها المناصر لأوكرانيا مُعلَن، ليس منذ أوّل يوم في الحرب الحالية فقط، بل منذ الحرب الأولى في عام 2014، حين بادرت إلى إرسال خبراء ومستشارين عسكريين. أمّا في حرب 2022، فلم تكتفِ بالدعم الدبلوماسي وإبداء التعاطف، بل مضت خطواتٍ أبعدَ عبر تقديمها الدعم اللوجستي وتوفير المُعدّات والتدريب، حتّى وصل الأمر خلال الأشهر الماضية حدّ تلويح الرئيس إيمانويل ماكرون بخيار التدخّل العسكري المباشر.
يمكن لمتابع الحالة السياسية الفرنسية أن يلاحظ أنّ هذا الموقفَ المُتحمِّس، الذي يذهب إلى مناصرة أوكرانيا والوقوف معها بأيّ ثمنٍ، غيرُ متفق عليه بين السياسيين الفرنسيين، الذين يرى أغلبهم أنّ انخراط بلادهم يجب أن يكون متوازناً وبنّاءً، مع الحرص على الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع روسيا، الدولة ذات الثقل والأهمّية بالنسبة لأوروبا.
كان السياسيون الرافضون للتصعيد ضدّ روسيا يُشيرون إلى الخسائر الكبيرة التي تتكبّدها أوروبا ثمناً للعداء المُعلَن تجاه الروس. أبرز هذه الخسائر هو التعقيدات المرتبطة بموارد الغاز والطاقة، إذ كانت معظم الدول الأوروبية تتعامل مع روسيا مصدراً رئيساً وشريكاً أقرب، وهو ما كان يصعب تغييره في ظلّ صعوبة وبُعد الخيارات الأخرى أو انعدامها.
لا تنفصل هذه الملاحظة عن سؤال الديمقراطية، فبرامج الأحزاب المنافسة، التي حصلت على عدد أصوات أكبر من أصوات مجموعة ماكرون كانت متفقةً كلّها على التوازن ما بين دعم أوكرانيا، دولةً مُعتدى عليها، مع الحرص على فتح أبواب الحوار والتعاون مع روسيا. ما حدث أنّ هذا الصوت لم يسمح له بأن يُشكّل حكومةً، فقطع الرئيس ماكرون الطريق على الجميع حينما أعلن أنّه لا يوجد فائز في الانتخابات، وأنّ الكتل كلّها هي أقلّيات لا يحقّ لأيّ منها أن يختار رئيس الوزراء بشكل منفرد.
تكلفة الانخراط في الحرب الأوكرانية لا تظهر في الأزمة الاقتصادية، وارتفاع تكاليف المعيشة بسبب زيادة أسعار الطاقة، فقط، بل تظهر أيضاً في حالة الاستنفار الأمني المستمرّة، التي تعود للخشية من قيام روسيا بعمليةٍ تخريبيةٍ داخل فرنسا ردّاً على ما تقوم به الأخيرة من رعايةٍ للجيش الأوكراني. جديد ما شهدناه في هذا الصدد هو ما حدث إبّان الاستعداد للأولمبياد، إذ بلغت حالةُ الاستعدادِ مستوياتٍ غيرَ مسبوقةٍ مع وجود آلاف المسلّحين التابعين للقوات الأمنية، الذين انتشروا في العاصمة إلى جانب جيوش أخرى من الخبراء التقنيين، الذين كانوا يستعدّون لمواجهة أيّ هجماتٍ سيبرانية قد تُهدِّد انسياب الخدمات.
إنّ تصوّر أنّ بالإمكان تركيع روسيا وإجبارها على الاعتراف بالهزيمة، وعلى القبول بالشروط الأوكرانية لا يبدو منطقياً
يرى المعارضون لتوجّهات ماكرون، التي تمثل تهديداً وجودياً لفرنسا، وفق تعبير اليمينية مارين لوبان، أنّ خروج فرنسا المُذلَّ من مستعمراتها السابقة في أفريقيا، والقطيعة، التي تعيشها حالياً مع عدد كبير من بلدان القارّة، هو إحدى نتائج معاداة روسيا، التي استخدمت مهارتها المعروفة في البروباغندا من أجل تشويه صورة فرنسا، ما ساهم في إلهاب حماسة الأفارقة، ودفعهم إلى المطالبة بقطع العلاقات ونقض اتفاقات الشراكة التاريخية، ما أنتج فراغاً لم تتأخّر روسيا في ملئه.
بين مزدوجتين، يمكن أن نقول إنّ ذلك الحديث المُتكرّر عن دور الدعاية الروسية وتسببها في تدهور العلاقات الفرنسية الأفريقية يبدو مبالغاً فيه، فالحقيقة التي لا تُنكَر هي أنّ علاقات دول أفريقيا بفرنسا لم تكن مبنيةً على الندّية بقدر ما كانت علاقةَ استغلالٍ ورهنٍ للإرادة السياسية والاقتصادية. هذه ليست كذبةً يروّجها الإعلامُ والقنواتُ الروسية المُعادِية، كما يذهب بعض الفرنسيين، بل هي ممّا لا يُنكِره أهمّ الباحثين العقلانيين، الذين يرون أنّ المتسبّب في هذه الخسارة هو السياسة الاستعلائية، التي كانت متأسّسةً على أخذ ما يمتلكه الأفارقة كلّه بلا مقابل.
يمكننا أن نلاحظ أيضاً أنّه، وعلى الرغم من الاتفاق، إلّا أنّ منطلقات السياسيين الرافضين توجّهات الرئيس ماكرون، التي ترى أنّ من واجب فرنسا الوقوف مع أوكرانيا، وإن أدَّى ذلك إلى بذل بعض التضحيات، مختلفة، فاليساريون يلفتون إلى أنّ الخاسر من هذه الحرب هو أوروبا، التي تدفع وتخسر كثيراً، في حين تبقى الولايات المتّحدة في مأمن من الناحيتَين العسكرية والاقتصادية، أمّا اليمينيون، فيرون أنّ روسيا تبقى جزءاً من العائلة الغربية، التي لا يجب الدخول معها في صراع، بل يجب احتواؤها من أجل مواجهة الأخطار الحقيقية القادمة من دول الجنوب، ومن الثقافات المنافسة.
علاقات دول أفريقيا بفرنسا لم تكن مبنيةً على الندّية بقدر ما كانت علاقةَ استغلالٍ ورهنٍ للإرادة السياسية والاقتصادية
هناك، بجانب ذلك كلّه، عاملٌ يُصرّ الداعون إلى دخول الحرب بشكل مباشر، في فرنسا، وأيضاً في بولندا والتشيك، على تجاهله، وهو عامل السلاح النووي. إنّ تصوّر أنّ بالإمكان تركيع روسيا وإجبارها على الاعتراف بالهزيمة، وعلى القبول بالشروط الأوكرانية لا يبدو منطقياً، فصحيحٌ أنّ فتحَ باب حرب نووية لن يكون خياراً سهلاً وستكون له عواقب، إلّا أنّ من المخاطرة تجاهل حقيقة أنّ روسيا هي إحدى الدول النووية.
لم يكفّ الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي عن المطالبة بأسلحة قادرة على الهجوم، وليس على صدّ هجمات الروس فقط. هذه المطالبات تتزايد اليوم بعد نجاح مغامرة التوغّل في الأراضي الروسية، والتي نتج عنها احتلالُ أجزاءٍ من إقليم كورسك. المجموعة الغربية، وفي رأسها فرنسا، اعتبرت في تصريحاتها أنّ هذا العمل مشروع للدفاع عن النفس ووقف اعتداءات موسكو. على هذا النحو يشرعن الحلفاء الغربيون عمليات أوكرانيا في الداخل الروسي، فيعتبرون أنّه إذا كانت الهجمات تنطلق من منصّات في داخل روسيا، فإنّ استهداف تلك المواقع وتحييدها ليس اعتداءً أو خرقاً للقانون.
السؤال المطروح اليوم هو هل يمكن الاستجابة لطلب الرئيس الأوكراني بشأن الحصول على مزيد من الصواريخ بعيدة المدى، القادرة على الوصول إلى موسكو، طمعاً في الوصول إلى مرحلة تبادل الأراضي، وبالتالي إنهاء الصراع؟