هل تخفّض السلطة الفلسطينية التنسيق الأمني؟

26 سبتمبر 2022
+ الخط -

لإنهاء حالة التوتُّر التي انتشرت في نابلس على إِثْر اعتقال السلطة الفلسطينية المطلوب والمطارد من قوات الاحتلال الإسرائيلي، مصعب اشتية، نجحت فصائل من منظمة التحرير ووجهاء من المدينة في إبرام اتفاق مع السلطة الفلسطينية، ممثلة بمحافظ نابلس، إبراهيم رمضان، وقادة الأجهزة الأمنية، يتضمَّن "العمل على إنهاء ملف المعتقل، مصعب اشتية، بصورة مُرضِية، وتشكيل لجنة من المؤسّسات والفعاليات وشخصيات مدينة نابلس للعمل على زيارته، ومتابعة ظروف احتجازه، والعمل على وضع سقف زمني للإفراج عنه"، إلى جانب "اعتبار حالة المطلوبين للاحتلال الإسرائيلي بمثابة (حالة وطنية)، دون العمل على ملاحقتها، بدواعٍ أمنية من قِبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية".
يمثل هذا الاتفاق تحوُّلًا لافتًا في مسار السلطة الفلسطينية، وغالبًا سيكون له تبعات احتلالية، لو كان يمثِّل، فعلًا، سياسة جديدة للسلطة، لا أنه وقَع تحت الاضطرار؛ لمنع تفاقُم المواجهات بين الغاضبين من الفلسطينيين وقوات الأمن التابعة للسلطة، وقد تجاوز نابلس إلى مخيَّمات الضفة الغربية. وحتى لو تنصّل المسؤولون الفلسطينيون منه، لاحقًا؛ بالسرِّ، أو بالعلن، بالفعل، أو بالقول، فإنه يمنح مؤشِّراتٍ على حدود تعهُّدات السلطة، فيما يتعلق بالصدام مع التعاطف الشعبي مع المناضلين، الذين باتوا محلَّ استهداف متناوب، بين قوات الاحتلال والأجهزة الأمنية الفلسطينية. ولا بدَّ لقادة إسرائيل السياسيين والأمنيين، أن يفاضلوا، في هذه المرحلة، ووفق معطياتها بين خطر انهيار السلطة وتراجعها المحدود عن تعهُّداتها بالحدّ من الأعمال التي تستهدف جنود الاحتلال، ومستوطنيه؛ ليزيد الأخيرون من مداهماتهم المناطق الفلسطينية، بما فيها المدن الفلسطينية؛ ما يضاعف إحراج السلطة وقيادتها، ويؤثِّر على الروح المعنوية لقواتها.    
ذلك في وقتٍ، تشهد الضفة الغربية المحتلة موجة من العمليات التي تستهدف جنود الاحتلال، والمستوطنين، نفَّذ بعضَها عناصر في الأجهزة الفلسطينية، كما في عملية حاجز الجلمة الأخيرة، إذ أسفر إطلاق النار على موقع عسكري تابع لجيش الاحتلال عن مقتل ضابط احتلالي كبير، واستشهاد المنفِّذين، أحمد عابد وعبد الرحمن عابد. وتتغذّى هذه العمليات بعمليات اعتدائية يومية تمارسها قوات الاحتلال، مع تفويض فضفاض لجنود الاحتلال بقتل أي فلسطيني، ولو لأدنى شبهة. وفي أثناء ذلك، وقعت حوادث عدّة، قتَل فيها جنود الاحتلال فلسطينيين، ثبَت أنه لا علاقة لهم، أو أنهم لم يكونوا مستحقّين للقتل، من وجهة النظر الإسرائيلية. وتقوم القوات الإسرائيلية بمداهمات ليلية على المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية، منذ شهور كجزء من عملية "كاسر الأمواج" التي انطلقت بعد سلسلة من الهجمات الفلسطينية التي أسفرت عن مقتل 19 شخصًا، بين منتصف مارس/ آذار وبداية مايو/ أيار الفائت. وجرى اعتقال أكثر من ألفي فلسطيني، منذ بدء العملية، بحسب جهاز الأمن العام (الشاباك). فيما قُتل ما لا يقل عن 97 فلسطينيًّا، على أيدي قوات الاحتلال، هذا العام (2022).

يستبعد أن هناك قراراً فلسطينياً بوقف التنسيق؛ فلو تحقق هذا فلن تكون ردّة فعل قادة الاحتلال مجرَّد التهديد بتكثيف الاقتحامات لمناطق السلطة الفلسطينية

هذا النوع من العمليات التي ينفِّذها عناصر في الأجهزة الأمنية الفلسطينية الأكثر إقلاقًا لدولة الاحتلال، ليس لأن عناصر الأمن الفلسطيني أعلى كفاءة قتالية، بالقياس إلى الشُّبَّان والفتيان الفلسطينيين الذين تدفعهم الحماسة، أكثر مما يرتكنون إلى تدريبات كافية. وإنما القلق الأكبر ينبع من مخاوف فقْدِ السلطة وقيادتها السيطرة، أو ارتخاء قبضتها الأمنية.  وقد قال رئيس وزراء حكومة الاحتلال، يئير لبيد، تعقيبًا على عملية الجلمة: "إن حقيقة أن أحد المسلَّحين المتورِّطين في قتل ضابط في الجيش الإسرائيلي هو عنصر في أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية تعتبر تصعيدًا"، ملمحًا إلى أن الحادثة "تمثِّل فقدانًا لسيطرة السلطة الفلسطينية". ويزداد قلق الاحتلال، في ظل توقُّعات بتغيُّر القيادة الفلسطينية، وإمكان حدوث خلافات داخلية، على خلفية خلافة محمود عباس، بين الطامحين، وإنْ كانت المؤشِّرات تقدّم حسين الشيخ، مسؤول الشؤون المدنية في السلطة، والمسؤول، أيضًا، عن التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، والمعيَّن بقرار من أبو مازن، أمينَ سرِّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفًا للراحل صائب عريقات، هذه المواقع التي يشغلها الشيخ، (مع تصدّره المشهد السياسي والأمني والمدني) تهيِّئ له رئيسًا للسلطة الفلسطينية، فالخشية أن يتضافر هذا العامل، وهو شعور أفراد الأجهزة الأمنية ببعض الخلخلة، في كيان السلطة، مع حالة الانسداد السياسي شبه المزمن، والمفتوح، والأزمات المعيشية التي يعاني منها قسمٌ منهم، مع عجز السلطة عن دفع الراتب كاملاً، بالإضافة إلى الاستفزازات الاحتلالية المنفلتة، في حدوث انهيار أمني في الضفة الغربية؛ يُخشَى أن يكون انخراط عناصر أمنية فلسطينية في عمليات المقاومة المسلحة أحد إرهاصاته. وفي هذا السياق، نقل الإعلام العبري عن تهديدات إسرائيلية، أو تحذيرات للسلطة من تداعيات تكاثر العمليات المقاوِمة، في الضفة الغربية.
أما أن يكون ثمّة قرار رسمي فلسطيني بوقف التنسيق فيُستبعَد؛ فلو تحقق هذا فلن تكون ردّة فعل قادة الاحتلال مجرَّد التهديد بتكثيف الاقتحامات لمناطق السلطة الفلسطينية. ولأن عقليات القائمين على الأجهزة الأمنية، والقيادات الفاعلة في السلطة، لا يبدو أنها تميل إلى اجتراح هذا المنعطف الاستراتيجي، بل الانقلابي؛ بالوقوف ليس في مواجهة قد تكون تدميرية مع دولة الاحتلال، فقط، ولكن مع الولايات المتحدة، فيما السلطة الفلسطينية وقيادتها المتنفِّذة سائرة في مسار مشروعات اقتصادية ومعيشية لا يمكن أن تكون، أو تستمر، إلا في أفق (الاستقرار) السياسي والأمني.

حالة الاحتقان والاستفزازات الاحتلالية المتلاحقة والمؤلمة استفزَّت حتى عناصر من قوات الأمن الفلسطيني، إذ هم ليسوا منعزلين

وهذا ما صرّح به حسين الشيخ، بعد أن كشفت القناة الإسرائيلية، كان 11، عن لقاء رفيع المستوى جمَع، أخيرًا، بين الشيخ، ومدير المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، ومسؤولَين أمنيَّين اثنين من إسرائيل، أحدهما من جهاز الأمن العام (الشاباك) والآخر من جيش الاحتلال نفسه. إذ أكَّد الشيخ، بحسب القناة الإسرائيلية، أن السلطة الفلسطينية تعمل ميدانيًّا، لكن "ليس بمقدورها العمل بشكل فعَّال، بعد كلّ المداهمات الليلية التي تنفذها قوات الاحتلال، وتعتقل السكان وتقتلهم، عملياتكم تضعفنا". فحالة الاحتقان والاستفزازات الاحتلالية المتلاحقة والمؤلمة استفزَّت حتى عناصر من قوات الأمن الفلسطيني، إذ هم ليسوا منعزلين، ولا مُنْبَتِّين، من حيث القرابات والصداقات والجوار عمَّن تغتالهم إسرائيل بدم بارد، من أبناء شعبهم، وحيث مشاعر الاستياء عابرة للحدود الفصائلية والتنظيمية.  
وعلى خط الاحتواء، دخلت أطراف عربية، منها مصر، والأردن، تحسُّباً لاندلاع مواجهات واسعة في فترة الأعياد اليهودية أواخر شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، ومطلع الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول). يمكن أن تتسع لتشمل الضفة الغربية والقدس ومناطق الـ 48، في الداخل. وذكرت قناة التلفزة الإسرائيلية الرسمية "كان" أن مسؤولين أمنيين بارزين في تل أبيب أبلغوا وزير الأمن الداخلي، عومر بارليف، في جلسة تقييم عقدت أخيرًا، أن خطر انتقال عمليات المقاومة الفلسطينية إلى داخل إسرائيل والقدس قائم.  
وكذلك صدرت تشديدات أميركية للسلطة الفلسطينية، كما جاء في أقوال مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، إن إدارة بايدن تعمل على ضمان استمرار التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، في خضم التصعيد المستمر في الضفة الغربية، وقالت ليف: الولايات المتحدة قلقة للغاية بشأن تدهور الوضع الأمني، الذي كان يتقدّم جدول أعمالها، خلال لقاءاتها مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين.

دولة الاحتلال مَعنية، في هذه الفترة بالذات، بكبح الظروف المساعِدة لاندلاع مواجهات واسعة مع الفلسطينيين، مع بقاء المخاوف بحدوث مواجهة مع حزب الله اللبناني

ولكن غالبية منفِّذي تلك العمليات لا ينطلقون من بنى تنظيمية، بقدر ما تكون دوافعهم وخططهم فردية، بالتوازي مع جهودٍ متواصلة وجادَّة تبذلها حركة الجهاد الإسلامي، التي حققت نجاحًا ملحوظًا في جنين، ومخيَّمها، لبناء خلايا عسكرية، وإعادة إنشاء بيئة للمقاومة، مع صعوباتٍ غير هيِّنة؛ نظرًا إلى ظروف الضفة الغربية المحتلة، ومحدودية الفرص، مع الاقتحامات الاحتلالية المتواصلة، واستمرار التنسيق الأمني من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. 
هذا ودولة الاحتلال مَعنية، في هذه الفترة بالذات، بكبح الظروف المساعِدة لاندلاع مواجهات واسعة مع الفلسطينيين، مع بقاء المخاوف بحدوث مواجهة مع حزب الله اللبناني، على خلفية النزاع على الغاز، وترسيم الحدود المائية، وتهديدات أمينه العام، حسن  نصر الله، بأنه لن يسمح لإسرائيل باستخراج النفط والغاز من حقل كاريش، قبل حصول لبنان على حصّته من مطالبه المستحقة من الغاز. 
وبعد، لا بد أن قادة الاحتلال، في المستويين السياسي والأمني، يدركون نجاعة ما تقدِّمه السلطة الفلسطينية، بالقياس بما تقوم به قوات الاحتلال، لحفظ الأمن في الضفة الغربية، لكن قادة الاحتلال، وهم في حمأة التنافُس الانتخابي، وتحت هاجس الأمن الدائم والعميق، كثيرًا ما يتصرَّفون في الضفة الغربية، وكأن لا وجود للسلطة، فضلًا عن الاعتراف بحاجاتها السياسية، ووقْع تلك الاستهانات، أو الإهانات، على درجة رضا أبناء الشعب الفلسطيني، في مناطق السلطة، وخارجها، عليها.