هل تتراجع الديمقراطيات في العالم؟
لا يخفى فيما يتعلق بالانقلابات، التي عمّت القارة الأفريقية، خصوصا منطقة الساحل، أخيرا، أنها لم تجد مقاومة تذكر من الشعوب، بل وجد أغلبها تأييداً كبيرة وفرحة من شرائح واسعة. كان ذلك واضحًا في أمثلة كثيرة، من بينها الانقلاب على الرئيس البوركيني، روش مارك كابوري، بداية العام الماضي (2022)، حيث عم البلاد شعور واسع بالارتياح بالتخلص من الحكومة العاجزة عن توفير الأمن، والتي كانت متّهمة بالتواطؤ وضعف القيادة، ما سمح بتمدّد الإرهاب وعصابات الجريمة.
أمر مشابه حدث بعد التغييرات السياسية المفاجئة في كل من غينيا ومالي، ففيهما كانت القيادات الجديدة تحظى بدعم كبير ومساندة، خصوصا مع تبنّي خطاب ثوري يعتبر أن التخلّص من الاستعمار المتستر الحديث هو الشرط الأساسي للنهوض، وأنه لا بد من وقف التدخّلات الأجنبية. بدا وكأن الطبقة السياسية الصاعدة اتفقت على أن الارتهان للخارج فشل في تحقيق أي نوع من النجاح، وذلك ليس فقط على صعيد مكافحة الإرهاب، وإنما حتى على مستوى الدعم الاقتصادي. هذه الطبقة الجديدة، التي ورثت أنظمة وظيفية ومتماهية مع المصالح الغربية، تشترك في انتقاد مصطلحات "التعاون" و"الشراكة" و"التحالف"، التي يستخدمها الأوروبيون، الذين كانوا يتعاملون مع هذه المنطقة كمزرعة استثمارية يقتصر واجبها على إمداد العالم المتحضّر بالمواد الخام.
يمكن استنتاج أن هذا الخطاب، الذي يدعو إلى إحداث قطيعة مع تراث الوصاية الغربية القديم، وبقدر ما يجد من ترحيب شعبي، لن يكون مرحّباً به من "الشركاء التقليديين" الذين سيعملون على إفشاله واتهام داعميه بالفوضى والاستبداد. وبالنسبة لعموم المواطنين، ونقصد بهم غمار الناس، من الذين لم يستفيدوا من هذه العلاقة "التاريخية" بالمستعمر الفرنسي، فهم لا يحزنون على إمكانية انقطاع العلاقات أو تراجعها مع "الحلفاء"، فبالنسبة إليهم لم يقدّم أولئك أي شيء يذكر لبلادهم مقابل الثروات، التي ظلوا يحصلون عليها بلا مقابل.
الارتهان للخارج فشل في تحقيق أي نوع من النجاح، وذلك ليس فقط على صعيد مكافحة الإرهاب، وإنما حتى على مستوى الدعم الاقتصادي
يجبر ذلك كله على إعادة تعريف الديمقراطية التي كانت في أصلها تمثيلاً لرأي الأغلبية، كما يجبر على التفريق بين هذا المعنى وما يحدُث من انتخاب زائف وديمقراطية كرتونية في أغلب البلدان. نتذكّر أنه لا تكاد الدول الأفريقية، بما فيها الأكثر قمعاً، تخلو من الانتخابات، أو من مبان برلمانية. في الوقت ذاته، يعلم الجميع أن كل هذه المظاهر لا تعدو أن تكون مجرّد لعبة لا ينتفض أصحابها، إلا في حالة ظهور لاعب جديد غير مرضي عنه من الغرب، الذي هو، للمفارقة، الراعي الأكبر لأغلب تجمّعات الجنوب السياسية. في هذه الحالة فقط، يتم الإعلان أن هذه السلطة الصاعدة ناشزة وخارجة عن الإجماع وغير شرعية. أما في غير ذلك من الحالات، فيمكنك أن تنجو حتى وإن كنت تقود انقلاباً صريحاً، بل أن يتم الترويج لك أيضاً وشرعنة وجودك.
السودان مثال آخر على إصرار الغرب على دعم حلفائه، حتى ولو جاءوا بغير انتخاب، وهو ما يظهر في الاحتضان المريب لقيادات "قوى الحرية والتغيير"، ليس فقط إبّان تشكيلهم الحكومة في بداية الفترة الانتقالية، ولكن حتى بعد إبعادهم عن السلطة بواسطة شركائهم من العسكريين. المطالبات والضغوط الغربية بإعادة "الحرية والتغيير" إلى السلطة وكأنهم مجموعة شرعية أو سلطة منتخبة لم تتوقف، ولعل من أكبر المفارقات التي توضح كم أننا رهائن للنظرة الغربية، هي اتفاق كثير من المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام على وصف إزاحة تلك الحكومة، التي كانت قد تشكّلت من دون إجماع، وبلا أي نوع من الاستفتاءات، بأنه انقلاب.
لماذا يفرح الناس بتغيير حكومةٍ يفترض أن يكونوا قد أتوا بها؟ الإجابة الواضحة والتفسير المختصر أنهم، ببساطة، لم يأتوا بها، حتى وإن كانت بنيت على وضع دستوري من الناحية الشكلية. يمكن للإنسان أن يستميت في الدفاع عن حكومةٍ تمثله، ويجد فيها انعكاساً لصورته، لكن في حالة الانتخابات "المهندسة" والبرلمانات المزوّرة، والتي تضع نصب أعينها مصلحة المموّلين الخارجيين، فإن لا أحد سيجتهد لتثبيتها أو دعمها، بل على العكس، ربما يخرُج الآلاف تأييداً لأي تغيير، حتى وإن كانوا غير واثقين من خلفياته أو مخطّطه.
وجدت انقلابات أفريقية أخيراً تأييداً كبيرا وفرحة من شرائح واسعة
تكثر أحاديث الغربيين عن تراجع الديمقراطيات في العالم. نتذكّر هنا أن الديمقراطيات، بلغة الغرب، هي الأنظمة، التي تشترك معه، ليس فقط في طريقة الحكم، ولكن أيضاً في النظرة إلى الحياة والوجود. هذا هو ما يجعل دول الشمال لا تعترف بروسيا والصين نظامين ديمقراطيين، مهما اجتهدت في هياكلها السياسية الداخلية، وكذلك الأمر بالنسبة لدول مثل تركيا وحتى المجر، التي يعتبرون أن الضغوط، التي تمارس فيها على جماعات المثلية الجنسية، تقدح في ديمقراطيتها.
مع الانتقاد لدول في شرق أوروبا، إلا أن الحلقة الأضعف تظلّ دول الجنوب، وهو الوصف، الذي يشمل دولا كثيرة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والتي لا يوصف منها بالديمقراطي، إلا الأكثر تماهياً مع المصالح والمشروعات الغربية، فلم يكن من الممكن وصف فنزويلا شافيز مثلًا بأنها دولة ديمقراطية، وإنْ أتى رئيسها بالانتخاب، والأمر متشابه في حالة كل الزعماء المناوئين للغرب.
لا نظن أن هناك تراجعًا في رغبة الناس في اختيار من يمثلهم ومن يتحدّث باسمهم، إذا كان ذلك هو المعنى المقصود للديمقراطية. أما إذا كان الحديث عن انتخابات صورية وبرلمان هزلي وحكومات ذات مظهر ديمقراطي لكنها لا تملك قرارها ولا تضع مصلحة مواطنيها ضمن أولوياتها، فالطبيعي ألا تتحمّس لها سوى الحواضن الصغيرة المقرّبة منها والمستفيدة من وجودها وبقائها، في حين تفرح البقية لانزياحها عن صدورهم.