هل تتجه الإمارات إلى تسوية ملف سجناء الرأي؟
تأخرت السلطات الإماراتية كثيراً في اتخاذ أي مبادرة إصلاحية للإفراج عن سجناء الرأي على مدار العشر سنوات الأخيرة، وهي الحقبة التي أطلق عليها بعضهم "العشرية المظلمة"، دلالة على منهجية دائرة القمع واتساعها في الإمارات خلال هذه السنوات. ففي وقت اتجهت بعض بلدان مجلس التعاون الخليجي، مثل البحرين والسعودية والكويت، إلى تسوية جزئية، ومشروطة في حالاتٍ كثيرة، لملفات بعض المعتقلين وسجناء الرأي، خصوصا المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان، تستمر الإمارات، على عكس الانفتاح الذي تدّعيه دولياً، في اتخاذ منحيً شديد العداء والتطرّف تجاه سجناء الرأي وأسرهم. الحقوقي البارز أحمد منصور من هؤلاء، وهو من الشخصيات القليلة التي ساهمت، على مدار العقد الأخير، في تأسيس نشاط حقوقي مهني في الإمارات، وفي منطقة الخليج بشكل عام. فاز عام 2016 بجائزة "مارتن إينال" الدولية الرفيعة تقديرا لهذا الدور. يقضي عامه الخامس في السجن منذ اعتقاله في مارس/ آذار 2017، والحكم عليه في مايو/ أيار 2018 بالسجن عشر سنوات وغرامة مليون درهم إماراتي، ذلك الحكم الذي أيّدته محكمة الاستئناف في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه. وقد دين منصور بتهمة "استخدام الإنترنت لترويج أفكار مغرضة من شأنها إثارة الفتنة والطائفية والكراهية". قبل اعتقاله، كان منصور يعد آخر نشطاء حقوق الإنسان في الإمارات خارج المعتقلات والسجون منذ انطلاق موجات من الاعتقالات والمحاكمات الواسعة في صفوف نشطاء سياسيين، وأكاديميين وحقوقيين في السنوات الخمس التالية على انطلاق الربيع العربي منذ عام 2011، والتي كان من ضمن المستهدفين فيها المحامي الحقوقي محمد الركن، والأكاديمي ناصر بن غيث.
تبنّت السلطات الإماراتية مزيداً من الإجراءات الانتقامية ضد أحمد منصور، عقب نشر تسريبات عن وضعه المزري في السجن
وفي رسالته، المسرّبة من زنزانته، في سجن الصدر قرب أبوظبي، إلى الإعلام الدولي والعربي، في يوليو/ تموز 2021، عبر السجين البرازيلي السابق في سجون الإمارات كاليو كاسترو، تحدّث منصور عن ظروف احتجازه المزرية، والتدهور المتسارع لحالته الصحية، حيث تم عزله بشكل مستمر في حبس انفرادي بمعزل عن العالم الخارجي، وحرمانه من أبسط الاحتياجات المعيشية الضرورية له. الأمر الذي دفعه، في أكثر من مناسبة، إلى خوض إضرابات جوع من أجل تحسين ظروف احتجازه. ثم تبنّت السلطات الإماراتية مزيداً من الإجراءات الانتقامية ضد أحمد منصور، عقب نشر هذه التسريبات. فبحسب تقرير أصدرته قبل أيام منظمة هيومان رايتس ووتش مع مركز الخليج لحقوق الإنسان، نقلت السلطات الإماراتية منصور إلى زنزانة أصغر، وأكثر عزلة، ومنعت عنه الرعاية الطبية. الأمر الذي دفع البرلمان الأوروبي إلى تبنّي قرار مهم في 15 سبتمبر/ أيلول 2021، دان استمرار احتجاز أحمد منصور، وطالب بالإفراج الفوري عنه وعن باقي سجناء الرأي في الإمارات. وحثّ القرار الدول الأوروبية على وقف تصدير التكنولوجيا التي يمكن توظيفها في التجسّس والرقابة على الإنترنت إلى الإمارات، بعد فضيحة استخدام السلطات الإماراتية برمجيات تجسّس إسرائيلية ضد نشطاء داخل الإمارات وخارجها، وضد محامين وأكاديميين وبرلمانيين في البلدان الغربية.
لم تنجح الضغوط والحملات الدولية في السنوات الأخيرة في تحقيق انفراجة لسجناء الرأي في الإمارات
كما شجع القرار الدول الأوروبية على إمكانية استخدام نظام العقوبات الخاص بالاتحاد الأوروبي ضد المتورّطين في هذه الانتهاكات، وأثار غضبا واسعا من السلطات الإماراتية، وبعض حلفائها في العالم العربي. ولم يكن صدور مثل هذا القرار الدولي بالأمر اليسير، نظراً إلى النفوذ السياسي والمالي الإماراتي الضخم في أوساط دوائر صناعة القرار في الغرب، والإعلام ومراكز البحوث العالمية، إلا أن صدور هذا القرار غير المسبوق عكس تصاعد اهتمام الشبكات الحقوقية الدولية بأوضاع حقوق الإنسان في الإمارات بالتزامن مع تزايد انخراط نشطاء من منطقة الخليج، وخصوصا من المقيمين في المهجر، في هذه الشبكات خلال العقد الأخير. وقد نجحت هذه الجهود في المحاصرة الأخلاقية والإعلامية للتوجهات الإماراتية، وإنْ لم تؤدّ إلى تغيير في السياسات الداخلية بعد. ففي محاولة لتحسين سمعتها دوليا في المجال الحقوقي، أعلنت السلطات الإماراتية، قبل نهاية العام المنصرم (2021)، عن تشكيل مجلس أمناء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، والتي كان قد أعلن عن تأسيسها بموجب قرار من رئيس دولة الإمارات خليفة بن زايد، بالتزامن مع اليوبيل الذهبي لتأسيس الدولة. والهدف المعلن من الهيئة أن تساهم في استدامة حقوق الإنسان في الدولة وتعزيزها، ومراقبة أداء الحكومة في ملف حقوق الإنسان. من ناحية أخرى، تبدأ هذا العام عضوية الإمارات في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لثلاثة أعوام بعد فوزها في الانتخابات التي أجرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وقد مكّن النفوذان الدولي والإقليمي للإمارات أيضاً في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي من انتخاب أحد مسؤوليها الأمنيين رئيسا منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول). ولم ترحب بهذين المنصبين اللذين حظيت بهما الإمارات منظمات حقوق الإنسان العالمية والإقليمية، للتخوف من سوء استغلال السلطات الإماراتية لهذه المواقع الدولية، والعمل على إعادة توجيهها للتغطية على انتهاكاتها، وعلى سجل حلفائها.
لم تنجح الضغوط والحملات الدولية في السنوات الأخيرة في تحقيق انفراجة لسجناء الرأي، نظراً إلى قدرات السلطات الإماراتية على احتواء (وإضعاف) الانتقادات الدولية لسجلها الحقوقي. لكن النجاح في تحييد الضغوط الدولية السياسية تجاه الإمارات لم يغير من حقيقة الفشل الأخلاقي الملاحق لسمعة الإمارات دولياً، حيث لم يعد من الممكن التعتيم على ما يجري في السجون الإماراتية، وفي فضح المسؤولية عما يتردّد عن تورّط السلطات الإماراتية فيه بشكل مباشر أو غير مباشر خارج الحدود، فالخطوة الأهم قبل الاحتفاء بتأسيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، أو النجاح في الحصول على عضوية مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، هو الإقدام على تسوية، ولو جزئية، لملف سجناء الرأي، وليكن الإفراج عن الحقوقي البارز أحمد منصور الخطوة الأولى في هذا الاتجاه.