هل تؤثر انتخابات البلديات المقبلة على السياسة التركية؟
تنتظم الانتخابات المحلية في تركيا في 31 مارس/ آذار المقبل. وعليه، جرى تعيين أغلب المرشّحين في 81 ولاية و922 بلدة. سيترشّح عن ائتلاف تحالف الجمهور (الحاكم) في إسطنبول وزير البيئة والحضر والمناخ السابق مراد كروم، وهو ائتلافٌ من حزبي العدالة والتنمية (الحاكم) والحركة القومية وأحزاب صغيرة أخرى. على الرغم من أنه لم يعلن بعد عن المرشّح لبلدية أنقرة الكبرى، إلا أنه ينتظر منه أن يكون في الغالب ذا صبغة قومية، لأن غالبية سكان أنقرة من القوميين ورئيس البلدية الحالي منصور يواش كسب الانتخابات السابقة بصبغته القومية. علما أن "تحالف الأمة" الذي ترشّح عنه يواش يميل أكثر نحو اليسار، ولكنهم لضمان حظوظ أوفر في الفوز بالانتخابات رشّحوا سياسيا قوميا كيواش. ويتكوّن من حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي وحزب الجيد الذي يتبنّى القومية التركية وممثل القومية الكردية حزب المساواة الشعبية والديمقراطية. سيترشّح يواش في الانتخابات أيضا، كما سيترشّح أكرم إمام أوغلو أيضا لبلدية إسطنبول الكبرى عن "تحالف الأمة، ولكن هذه المرّة بدون حزب الجيد.
من أجل فهم الانتخابات المقبلة بعد شهرين ونصف الشهر، لا بد من الرجوع إلى انتخابات ما قبل خمس سنوات. كان الائتلاف الحاكم، بقيادة رجب طيب أردوغان، واثقا من الفوز مرّة أخرى في انتخبات البلديات في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، وذلك نسبة لرضى الشعب التام عن الخدمات المقدمة في البلديات التي يحكمها الائتلاف منذ 25 عاما. وعلى النقيض من ذلك التفاؤل، جاءت النتائج بفوز تحالف الأمة بأربع من أصل أكبر خمس بلديات. وكانت هذه النتائج بمثابة بارقة أمل للمعارضة للفوز على أردوغان في المستقبل، وإن كان مبنيّا على الائتلاف والتكتل.
غيّر فوز المعارضة موازين السياسة التركية إلى حد كبير، فنتيجة لهذا، انضمّ رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو ووزير الإقتصاد الأسبق علي باباجان إلى تحالف الأمة، وهما اللذان كانا قد انفصلا عن حزب العدالة والتنمية وشكّلا حزبين منفصلين. سبقهما في ذلك حزب السعادة، الحزب الأكثر محافظة وميلا نحو اليمين والذي كان على خلافٍ حادّ مع حزب الشعب الجمهوري سنوات عديدة. فقد كانت لديهم غاية مشتركة، إنهاء حكم حزب العدالة والتنمية المستمرّ منذ 20 عاما. لذلك بدأوا بالتجهيز للانتخابات العامة، بمجرّد انتهاء انتخابات البلديات.
كان رئيس بلدية إسطنبول الجديد أكرم إمام أوغلو يستعد ﻷمر آخر أكبر. بعد تغلّبه على مرشّح حزب العدالة والتنمية في إسطنبول، وضع نصب عينيه أن يكون مرشّح المعارضة في الانتخابات الرئاسية. وبدلا من الاهتمام بقضايا إسطنبول، لتحقيق ذلك المقصد، قام بحملات انتخابية في مدن مختلفة، ويدعمه في ذلك التوجّه الناخبون الذين صوّتوا للمعارضة. سببت تلك التحرّكات حالة من عدم الارتياح لدى زعيم المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو، والذي كان واثقا من الفوز في الانتخابات الرئاسية، على الرغم من أنه خسر أمام أردوغان قبل سنوات، ومع ذلك أراد لنفسه أن يكون المرشّح.
يعدّ إمام أوغلو طموحا للغاية، ولن يرضى بمنصب آخر غير رئاسة الجمهورية. ومع ذلك، في حال خسر هذه الانتخابات، سوف تنهار جميع أحلامه مرّة أخرى
أعلن كيليتشدار أوغلو نفسه مرشّحا للمعارضة في نهاية الأمر، وتعهّد بتعيين عمدتي إسطنبول وأنقرة نائبين للرئيس. كان الجميع في كتلة المعارضة على ثقةٍ تامةٍ من الفوز في الانتخابات إلى درجة أن أكرم إمام أوغلو ومنصور يواش بدآ باستخدام لقب نائب الرئيس قبل الانتخابات، لكن نتائج الانتخابات جاءت عكس توقعات المعارضة مخيّبة لآمالهم، فقد فاز أردوغان، رغم الوضع الاقتصادي المتأزم وكارثة الزلزال التي راح ضحيتها 50 ألف قتيل.
ونتيحة لهذه الهزيمة، وجهت المعارضة أصابع اللوم إلى كيليتشدار أوغلو. وفي رأيي، كانت المعارضة ستخسر بغض النظر عن مرشّحها، لأن الناس أعلنوا موقفهم قبل الإنتخابات. لقد صوّت كل من يمكنه التصويت لمرشّح المعارضة بالفعل. فلو دخل المعترك الانتخابي إمام أوغلو بدلا من كيليتشدار أوغلو لخسر أيضا، لكن أحزاب تحالف الأمة يبدو أنها لم تفهم ذلك. نتيجة لتلك التداعيات، انسحب حزب الجيد من التحالف، وقرّر خوض الانتخابات المحلية بمفرده. أما في حزب الشعب الجمهوري، فقد أرغم كيليتشدار أوغلو على التنازل عن منصبه لصالح أوزجور أوزيل. ووفقا للادعاءات، لم تكن لدى أوزيل أي فرصة للتغلب على كيليتشدار أوغلو في الانتخابات الداخلية للحزب. ومع ذلك، أقنع إمام أوغلو المندوبين في الحزب باختيار أوزيل، وذلك بتقديم تعهّدات مختلفة لهم.
يبقى ما ذكر سابقا في نطاق الادّعاءات. ومع ذلك، يلاحظ أنهما كلما اجتمعا تصرّفا وكأنهما رئيسان متساويان. لكن إمام أوغلو أكثر نشاطا في الظهور الإعلامي، كل من يشاهدهما يصل إلى قناعة أن إمام أوغلو هو زعيم حزب الشعب الجمهوري وليس أوزيل. استنادا إلى بعض الادّعاءات، يوجد خلاف بينهما على مرشّح حزب الشعب الجمهوري للانتخابات المحلية. كما أنه من الواضح أن أحزاب تحالف الأمة المتحدة في انتخابات البلديات لعام 2019، هي أيضا في حالة من الصراع، سواء في ما بينها أو داخل أروقتها.
إذا كان الحال كما سبق، كيف ستؤثر هذه المنافسة على الانتخابات المقبلة؟ إذا كان السؤال بشأن المعارضة، فإن إمام أوغلو كان يطمح بأن يدخل عليه عام 2024 بصفته رئيسا للجمهورية، لكن ذلك لم يعدُ طموحا. أما الآن فيضع انتخابات الرئاسة لعام 2028 نصب عينيه. ولذلك، الفوز بفترة جديدة في انتخابات بلدية إسطنبول مسألة مصيرية. في حال فوزه، سيطالب بزعامة حزب الشعب الجمهوري وتحالف الأمة. إذ يعدّ إمام أوغلو طموحا للغاية، ولن يرضى بمنصب آخر غير رئاسة الجمهورية. ومع ذلك، في حال خسر هذه الانتخابات، سوف تنهار جميع أحلامه مرّة أخرى، لان حزبه لن يرى فيه المنافس الجدير لأردوغان، أو الشخص الذي سيختاره.
ستؤثر الأزمة الاقتصادية التي تسبّب فيها الحزب الحاكم على الانتخابات المحلية، فقد يرغب الناس المفقرين في الانتقام من الحكومة التي يلومونها في ذلك، عبر الخسارة بالانتخابات
لا تنتهي مشكلات إمام أوغلو عند هذا الحدّ، إذ ترى فيه طائفة العلويين الداعمة لكيليتشدار أوغلو الشخص الذي أطاحه. ويرون أوزيل أيضا معه في الجانب نفسه. لهذا السبب، هنالك احتمال أن تلك الفئة لن تشارك بالتصويت في الانتخابات أساسا. وعلى الجانب الآخر يفكر حزب الجيد بدخول الانتخابات بمرشّحيه. على الرغم من أن القسم الأكبر من الداعمين لحزب الجيد سيصوّتون لإمام أوغلو، لكن جزءا منهم سيمتنع عن ذلك. ويُعاب على إمام أوغلو عدم تركيزه على عمله الحقيقي، فمنذ توليه رئاسة بلدية إسطنبول، تدنت الخدمات المقدّمة منها، فقد تم بناء عدد قليل جدا من مترو الأنفاق، وتعطلت حافلات البلدية والنقل العام بصورة ملحوظة. لم تعد الشوارع نظيفة كسابق عهدها. جرى ايقاف عديدٍ من الخدمات المقدّمة للشعب أو تقليصها. وكان ذلك بداعي الحد من البذخ والإسراف، لكنه صرف أكثر من حدود البذخ. سيلاحظ الناخب هذه النواقص، وسيضعها في اعتباره في الانتخابات بكل تأكيد.
لا تسير الأمور كما يجب في الجانب الحاكم أيضا، فالمرشّح عن التحالف الحاكم قد أدّى بشكل جيد في فترة الزلزال، لكنه غير معروف في إسطنبول، رغم ذلك حظوظ انتخابه واردة، بسبب اختيار أردوغان له. مشكلة أخرى يواجهها "العدالة والتنمية"، وهي حالة البرود تجاهه. كما يعاني حزب أردوغان الحاكم 21 عاما من التعب. ويمكن أيضا أن يشعر الناس بالملل من رؤية حزب واحد بصورة دائمة في سدّة الحكم. مهما قدّم الحزب من خدمات، فإن النفس البشرية توّاقة للتغيير. وهذا ليس منطقيا فقط، وإنما هو نفسي في المقام الأول، ومجابهته من الصعوبة بمكان. وفي الواقع، كان ذلك سبب خسارة حزب العدالة التنمية في الانتخابات السابقة.
إذا دخل المعترك الانتخابي إمام أوغلو بدلاً من كيليتشدار أوغلو لخسر أيضاً، لكن أحزاب تحالف الأمة يبدو أنها لم تفهم ذلك
مشكلة أخرى هي الأزمة الاقتصادية القائمة. في الواقع، لا ينبغي أن يكون هناك ربط بين الخدمات التي تقدّمها البلديات والأزمة الاقتصادية على الصعيد الوطني. إذ يمكن للبلديات تقديم أداءٍ جيّد في ظل اقتصاد قومي متأزّم. يمكن التماس رضا الناس عن الخدمات التي تقدّمها البلديات التي يحكمها "العدالة والتنمية". ومع ذلك، حتما ستؤثر الأزمة الاقتصادية التي تسبّب فيها الحزب الحاكم على الانتخابات المحلية، فقد يرغب الناس المفقرين في الانتقام من الحكومة التي يلومونها في ذلك، عبر الخسارة بالانتخابات.
في نهاية المطاف، من المتوقّع أن يجري معترك انتخابي حامي الوطيس، فإما أن يفرق الناس بين الأزمة الاقتصادية وخدمات البلديات، وعليه يمنحون أصواتهم لمرشّح تحالف الجمهور، أو ينفسّون عن غضبهم بمنحهم اصواتهم لمرشّح المعارضة. وعلى هذا المنوال، تستمر المعارضة في حكم مدنٍ كبرى كإسطنبول وأنقرة وأزمير، على الرغم من سوء إدارتهم شؤون تلك البلديات.
في حال فوزه، سيتوّج "تحالف الجمهور" نجاحه في الانتخابات العامة بالانتخابات المحلية. وفي حال خسارته، سيكون ذلك مبعث حزن فقط، لأن الانتخابات المحلية لا تمنع احتفاظه بالسلطة في البلاد. من ناحية أخرى، في حال فوز المعارضة، سيزيد ذلك من طموحها في الظفر بالانتخابات العامة. سيسعى إمام أوغلو بصورة حثيثة إلى أن يصبح زعيما لحزب الشعب الجمهوري، وسيعمل على ترشيح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية. وفي حال حدوث العكس، ستكون تلك بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير، وستكون نهاية مشواره السياسي.
... دعونا جميعا ننتظر ونرى كيف ستؤثّر الانتخابات المحلية على السياسة العامة في تركيا.