هل تأخّرت ثورة السويداء؟
تتواصل الهبّة ضد النظام السوري في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، منذ أسبوعين. احتلت الانتفاضة الشعبية، كما يحبّون تسميتها، الفضاء العام، فنزل المحتجون إلى الساحات، أعلنوا إضراباً عاماً شلّ الأسواق والحركة التجارية والنقل، وقطعوا الشوارع، وفرضوا إغلاقاً للمؤسّسات والإدارات العامة، ما عدا الخدمية الرئيسية منها.
تتفاوت شعارات المنتفضين تحت مظلة واسعة مطلبية وسياسية، يمكن تلخيصها في وقف انهيار الاقتصاد وتجويع السوريين، وضرورة تغيير النظام عبر تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، ووضع حدّ لإغراق المجتمع بالمخدّرات والعنف، والتوقف عن تحويل المنطقة الحدودية مع الأردن إلى معبر لتهريب الكبتاغون إلى الخليج العربي، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف بيع ثروات البلد للاحتلالات الخارجية، ووضع حدٍّ للتدخل الإيراني وحزب الله. المحرّك الرئيسي لموجة الاحتجاجات الأهلية الحالية قرار مجلس الوزراء أخيرا بتحرير الأسعار، وسط الانهيار المتواصل والمديد لقيمة الليرة السورية. سبقت هذه الهبّة أربع موجات احتجاجية واسعة في السويداء منذ العام 2011، دارت جميعها حول قضايا مطلبيّة معيشية، ولامست التغيير السياسي بحذر. هذه المرّة، بدأت الاحتجاجات بالتصويب السياسي على أسباب الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، عبر المطالبة بإسقاط النظام حلا للأزمة السورية المستمرّة منذ ثورة العام 2011.
الملفت أن مسؤولاً سورياً، حتى هذه اللحظة، لم يظهر عبر الإعلام ليُخاطب المنتفضين. بل تجنّب الإعلام الرسمي الحديث عن الموضوع تماماً، وما زالت تغطياته عن السويداء تراوح بين توزيع السماد على الفلاحين وتسلّم القمح منهم وجماليات موسم قطاف اللوزيات، فالدولة مفلسة تماماً وعاجزة عن تقديم أي خدماتٍ إضافيةٍ اعتادت تقديمها في مواسم الاحتجاجات، كرشاوى قد تحسّن مزاج المنتفضين، مثل زيادة ساعات التغذية بالتيار الكهربائي، أو تقديم تعويضاتٍ لمزارعي التفاح أو رفع سعر استلام القمح. في المقابل، لا يبدو أن النظام في وارد تقديم أي تنازلٍ سياسي، مهما كان نوعه، يتضمّن اعترافاً بوجود إرادة للناس، ورغبة في التغيير. لا تنازل ذا معنى، يتضمّن إشراكاً حقيقياً للناس في صنع معاشهم اليومي، وسحباً لتسلّط الأجهزة الأمنية والعسكرية على حياتهم ومقدّراتهم. لذا، ليس لدى النظام سوى مروحة من الحلول الأمنية والعسكرية، والتي بدأ التهديد باستخدامها في السويداء عبر حملاتٍ إعلاميةٍ طائفيةٍ تحريضيةٍ يشنّها بعض المؤثرين في وسائل التواصل من إعلاميي النظام، يتهمون فيها الدروز بالخيانة والعمالة للخارج، وبأن النظام لم يقُل كلمته بعد، ويهدّدون بحرق السويداء على رؤوس أهلها، لأنها أحرقت صور الرئيس السوري، وأزالت شعارات "البعث" من الفضاءات العامة. إعادة تموضع قوات النظام وانتشارها في بعض المواقع ضمن السويداء بدأت تبعث رسائل عن إمكانية وقوع صداماتٍ مسلحة.
تتفاوت شعارات المنتفضين في السويداء تحت مظلة واسعة مطلبية وسياسية، يمكن تلخيصها في وقف انهيار الاقتصاد وتجويع السوريين، وضرورة تغيير النظام
حظيت موجة الاحتجاجات الراهنة بدعم الرئاسة الروحية للدروز، مُمَثلةً بشيخ العقل حكمت الهجري، وكذلك دعم شيخ العقل حمود الحناوي من مؤسّسة مشيخة العقل، بينما انحاز قطبها الثاني شيخ العقل يوسف جربوع لسردية النظام عن وجود مؤامرة ودسائس وأصوات مشبوهة، وذلك خلال اجتماعه مع محافظ ريف دمشق موفداً من القيادة السورية. القيادات الزمانية، من الوجهاء الاجتماعيين والزعماء التقليديين وقادة العائلات، تنوّعت مواقفهم أيضاً، من التأييد الكامل لمطالب الحراك السياسية، إلى مواقف أكثر حذراً نسبياً، كمطالبة الحكومة بالإصلاح وتحسين الوضع المعاشي.
ورغم أن التصعيد بات احتمالاً ممكناً، وسط انتشار محمومٍ للشائعات عن الفوضى والمؤامرات، إلا أن الحراك على الأرض يتوسّع ويتمدّد، والمطالب تتجذّر، والناس تبدو وكأن عقدة لسانها التي لازمتها طوال السنوات الماضية، قد حلّت دفعة واحدة، فخرجت الأصوات عالية بلا قيد ولا شرط. كل شيء خاضع للمساءلة. كما كل الثورات الأصيلة، النقاش مفتوح على مصراعيه، في الشارع وفي غرف وسائل التواصل الاجتماعي. يتمركز النقاش حول الموضوعات كلها، بلا حرج، وبلا سقفٍ سياسي. الكل يدلي بدلوه، عن الهوية السورية، وموقع الدروز فيها، المركزية أو الفيدرالية، علَم النظام أم علَم الاستقلال أم بيرق التوحيد، العسكرة أو السِّلمية. النقاش مستمرٌّ ولحظيّ، ما هو المطلوب الآن، وغداً، وبعد غد. فجأة امتلكت الناس أصواتها، وعادت إلى الحديث بطلاقة. لا شيء منجزاً، ولا شيء كاملاً. مجرّد حراك يحدث ويتشكّل في هذه اللحظة. المخاوف كبيرة من الفوضى وردود فعل النظام والعصابات، لكن الروح مفعمةٌ بالآمال، بإمكانية حدوث تغيير حقيقي بعد خمسين عاماً من حكم حزب البعث. ليس أدلّ على ذلك من قرار إغلاق كل شُعَب حزب البعث ومقارّه على امتداد مساحة المحافظة، والنقاش الدائر حالياً عن مصيرها وتحويلها إلى روضات أطفال أو جامعات. بل ثمّة قرى قرّرت إلغاء مقرّرات التربية الوطنية من المناهج المدرسية، وإنهاء هتاف التلاميذ لشعارات "البعث" الصباحية لدى عودتهم إلى المدارس قريباً.
يصف بعض الدروز أنفسهم تقليدياً بـ"ولاد الخوثَة"، للتعبير عن حالهم حين يعتريهم الغضب كجماعة، لا كأفراد
للخارج، يبدو ذلك مفاجئاً، فالسويداء بقيت حيادية خلال سنوات الثورة السورية والحرب الأهلية التي تلتها. رفض أبناؤها الخدمة العسكرية الإلزامية في قوات النظام، وعاشوا نوعاً من الحماية الذاتية تحت راية بعض الفصائل الأهلية المحلية. اكتسبت المنطقة خصوصية، فكان ردّ النظام بخفض خدمات الدولة فيها إلى الحدود الدنيا، وإدارة الفوضى الأمنية من الخلف. السويداء، على ألسنة أهلها، تعاني شحّاً في ماء الشرب وجفافاً غير مسبوق بسبب التغيّر المناخي، لكن الدولة لا تسعى جدّياً إلى إصلاح آبار المياه المعطلة، ولا لمد المضخّات بالكهرباء. الناس يدفعون من جيوبهم تكاليف الخدمات التي تقدّمها الدولة، رشاوى وثمناً للمواد الأولية والمعدّات، قبل أن تأتي عصاباتٌ مرتبطةٌ بأجهزة الأمن لتسرق كل تلك التجهيزات. هذا هو الحال أيضاً في درعا، وفي ريف دمشق. الدولة باتت عبئاً ثقيلاً على الناس، وجابياً للضرائب، من دون أدنى خدمةٍ في المقابل. النظام يعيش على الفوضى، ويغذّيها، ويراقب انحلال الدولة وانهيارها، وانسحاق الناس تحتها.
السويداء كانت تعيش الزلزال السوري بطريقتها. شاهدت أهوال النظام في قمع السوريين، وشاهدت تطرّف بعض المعارضة وأسلَمَتها. مع الوقت، كان الغضب يتصاعَد، والأصابع تتجه إلى المسؤول الرئيسي عن هذه الفوضى، وإلى المستفيدين منها. وهكذا، كما جميع الثورات، حدثت ثورتُهم حين اكتملت أسبابها.
ولتفسير ذلك، يبدو مهمّاً إلقاء نظرة على آليات حدوث الهبّة لدى هذه الأقلية المذهبية - القبلية. إذ يصف بعض الدروز أنفسهم تقليدياً بـ"ولاد الخوثَة"، للتعبير عن حالهم حين يعتريهم الغضب كجماعة، لا كأفراد. و"الخَوَث" هو رديف لغياب العقل، في مذهب الموحّدين الذي يُعلي من راية العقل ويضعه أول حُدوده الخمسة المقدّسة. بل تسمّى السلطة الدينية العليا لدى الدروز مشيخة العقل، ولهم منها ثلاثة شيوخ في السويداء. نقيض ذلك العقل هو الخَوَث في عُرف الدروز القدامى. وغالباً ما يقال ذلك الوصف في إحالةٍ إلى لحظات التمرّد، الانتفاضات والهبّات الشعبية، لجمهور الدروز الأوسع. الخَوَث هنا هو لحظة غياب العقل، جنونٌ جماعي. لو كان التعبير معاصراً لربما وصفوا أنفسهم بـ"أبناء الثورة".
المخاوف كبيرة من الفوضى وردود فعل النظام والعصابات، لكن الروح مفعمةٌ بالآمال، بإمكانية حدوث تغيير حقيقي بعد خمسين عاماً من حكم حزب البعث
لا يعني ما سبق أن الدروز هم جماعة ثائرة في طبعها وجيناتها. بل الدروز، في العموم، مجتمعٌ محافظ، شديد التمسّك بتقاليده وعاداته، وما زال، في كتلته الأكبر، يحتكِم إليها في أزماته. وهم، ككل الجماعات البشرية، يقضون وقتاً طويلاً تحت العسف والظلم، ويهبّون في لحظة ما دفاعاً عن أنفسهم. حتى هذه الهبّة الاستثنائية، تستغرق وقتاً طويلاً وتُطبَخ على نار التراكم، وتحدُث بشكل مفاجئ، ككل الثورات. والدروز، كغيرهم من الجماعات، ليسوا ميّالين للخروج عن السائد والمألوف. المغرّدون خارج السرب، في البداية، غالباً ما يطاولهم النبذ الاجتماعي، ورفض الوجهاء والمشايخ لهم.
أما الانقلاب الدرزي الجذري، فغالباً ما يحدُث بشكل جماعي. إذ قد تتأخّر الهبّة الدرزية، حتى اكتمال كل عناصرها الداخلية، واتفاق الغالبية على ضرورتها، وحتميّتها. وما يحدُث هو انقلاب غالبية الجماعة، في لحظةٍ واحدة، من حالٍ إلى حال. ولا شك أن لدى بقية الطوائف والإثنيات مسالك تتشابه أو تختلف. لكن المميّز لدى الدروز قد يكون هذه الهبّة الجماعية بعد طول رفض وانكار لأسبابها ونبذ لمؤججيها. لا يعني ذلك، أيضاً، أن الجميع فعلياً يثورون، أو أنهم على قلب واحد، أو أن هبّتهم بالضرورة ستنجح، أو ستتمكّن من تحقيق بعض مطالبها. لكن في هذه الحالة يرتفع مستوى التحفيز والحَمِيّة، وتضافر الجهود. في هذه اللحظات، يردّد الدروز بشكل متواصل مقولة: "نَفَس الرجال بيحيي الرجال"، في نوع من إذكاء الحماسة، المتكرّر والمستمر والمتواصل، للحثّ والتشجيع، والتحفيز، وحماية الظَّهر.
ما يحدُث اليوم هو ثورة السويداء، بتوقيتها الخاص، وزمنها المضبوط على ساعة الحدث السوري، لا تأخيراً ولا تقديماً. بل تماماً حين صار وقت هبّتهم انتصاراً ودفاعاً عن ذاتهم، وتضامناً مع بقية السوريين، ورفضاً للنظام. والمستقبل القريب مفتوحٌ على احتمالات كثيرة، ليست جميعها وردية بطبيعة الحال.