هل بدأ الإجماع الإسرائيلي يتغير؟
على الرغم من مرور أكثر من مائة يوم على الحرب الإسرائيلية في غزّة، لا تزال أغلبية الرأي العام في إسرائيل تدعم هذه الحرب، وتؤيد الهدفين اللذين وُضعا لها: القضاء على حركة حماس، وإعادة المخطوفين، على الرغم من أن أيّاً منهما لم يتحققا، ولكن يبدو أنه ما زال في إسرائيل مَن يصدّق أن الضغط العسكري على "حماس" يسرّع في عملية إطلاق المخطوفين، بعكس ما يعتقده أهالي المخطوفين والجمهور المتعاطف معهم والآخذ في الازدياد، والذي بدأ يقتنع بأن الحرب دخلت متاهة من العنف الدموي الذي لا نهاية له.
ضمن هذا الاطار، يمكن تشبيه حادثة الانفجار الكبير في منطقة المغازي في مطلع الأسبوع الجاري، التي قُتل فيها 21 ضابطاً وجندياً، بحادثة اصطدام المروحتين العسكريتين الإسرائيليتين في 4 فبراير/ شباط 1997، وهما في طريقهما إلى الجبهة في جنوب لبنان، والتي أودت بحياة 73 جندياً، بينهم 18 ضابطاً، وشكّلت نقطة تحوّل في الوجود العسكري الإسرائيلي في الحزام الأمني في جنوب لبنان، وكانت بداية التحرّك الإسرائيلي المطالب بانسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب، حيث كانت المواجهات بين الجيش وحزب الله تحصد 20 جندياً في كل شهر تقريباً. وإذا أظهر التحقيق الإسرائيلي أنّ الانفجار حدث أيضاً بسبب "خطأ بشري" أو حادثة، وليس فقط جراء صاروخ أطلقته كتائب القسام على القوة الإسرائيلية من الاحتياطيين كانت في مهمة روتينية دفاعية، فإنّ هول الحادثة وتأثيرها في الرأي العام الإسرائيلي سيكون أكبر بكثير مما يظهر، فالضربات المتتالية التي سبّبها الجيش الإسرائيلي نفسه ضد قواته بدأت تضغط أكثر فأكثر؛ من حادثة إطلاق الجنود الإسرائيليين بالخطأ النار على جنود كانوا أسرى لدى "حماس" في الشجاعيّة، ما أدى إلى مقتل ثلاثة منهم؛ إلى انتشال الجيش قبل أسابيع جثث جنديين ومواطناً مدنياً في غزّة بعد تفجير نفق تابع للحركة، ليتضح بعدها أنّ هؤلاء ماتوا اختناقاً مسمومين جرّاء استخدام الجيش غازات سامّة. بدأت هذه الحوادث وغيرها تثير شكوكاً لدى الإسرائيليين عموماً في أداء القوات الإسرائيلية في الميدان، وزادت من شكوك أهالي المحتجزين الإسرائيليين في صدق التصريحات الرسمية الإسرائيلية بشأن استعادة أبنائهم أحياءً، مع تكاثر المؤشّرات التي تدلّ على أنّ الأولوية المعطاة من المستوى السياسي للقيادة العسكرية هي تدمير "حماس" بأيّ ثمن، ولو على حساب تعريض حياة المحتجزين للخطر.
فاقم هذا كله من حدة انقسام الإسرائيليين بين مَن يدعو إلى وقف القتال والذهاب إلى صفقة تبادل للأسرى قبل فوات الأوان وبعد تزايد عدد القتلى من المحتجزين بسبب عمليات الجيش في القطاع، وبين مَن يعتبر أنه يجب الاستمرار في الحرب، وأي إعلان عن وقف النار الآن هو خضوع لـ"حماس". وهذا الانقسام مرشّح لأن يتصاعد ويزداد في ضوء تعثر المفاوضات على صفقة تبادل الأسرى، والتشكيك الإسرائيلي الرسمي بالوساطة القطرية وفرض شروط إسرائيلية تعجيزية لا يمكن أن تقبل بها "حماس".
الانقسام مرشّح لأن يتصاعد ويزداد في ضوء تعثر المفاوضات على صفقة تبادل الأسرى، والتشكيك الإسرائيلي الرسمي بالوساطة القطرية ومحاولة فرض شروط إسرائيلية تعجيزية
نقطة أخرى تؤشّر على تزعزع الإجماع الإسرائيلي على الحرب، هي بروز الانقسامات بحدّة بين القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وسببها عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة لدى الحكومة بشأن "اليوم التالي" للحرب، وعدم وضع خطّة للخروج من الحرب. ففي رأي أكثر من مسؤول عسكري إسرائيلي سابق، أن القيادة السياسية تعتقد أن تحقيق إنجازات تكتيكية سيؤدي إلى إنجازات استراتيجية، وهذا بحسب قولهم وهمٌ مطلق، ولا سيّما في ضوء رفض نتنياهو مناقشة اليوم التالي للحرب، وعدم استجابته للمبادرة التي طرحتها الإدارة الأميركية عبر ممثليها في المحادثات التي أجروها مع قادة عرب ومسؤولين إسرائيليين.
نقطة أخرى يمكن أن تساهم في التأثير في الإجماع على الحرب، الحروب الداخلية الدائرة بشأن من يتحمّل مسؤولية التقصير الفادح الذي أدى إلى هجوم 7 أكتوبر، ومحاولات الليكود وزعيمه لتحميل الجيش والأجهزة الأمنية وحدها هذه المسؤولية، وتبرئة رئيس الحكومة منها، الأمر الذي يخلق أجواءً مسمومة، ويعزّز عدم الثقة بين الأجهزة، ويؤثر في معنويات قيادات هذه الأجهزة العسكرية المسؤولة عن قيادة الحرب. يجري هذا كله في ظل ائتلاف حكومي معادٍ لرؤساء هذه الأجهزة، ويقتنص الفرص للغمز من قناتها واتهامها بالتقصير والمسؤولية الحصرية لما حدث. وهذه جبهة داخلية إضافية مهددة بالمزيد من التأزم، وسيكون لها تداعياتها أيضاً على الرأي العام الإسرائيلي وعلى موقفه من الحرب.
بالطبع، مشهد نعوش الجنود الذين قُتلوا في غزة يمكن أن يؤدي إلى ردّتَي فعل متعارضتين وسط الجمهور: ردة فعل تطالب بالانتقام وتدفيع "حماس" الثمن والمضيّ بالحرب حتى النهاية، وردة فعل معارضة للحرب تشبه حركة الأمهات الأربع في التسعينيات التي سرّعت في الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000.
لكن في ظل ائتلاف يميني متطرف عنصري مؤيد للحرب وكاره للفلسطينيين، ويريد تهجير سكان غزّة طوعاً أو قسراً ويحلم بعودة المستوطنات اليهودية إلى قطاع غزّة، وفي ظل وجود بنيامين نتنياهو على رأس هذا الائتلاف الذي يريد إطالة أمد الحرب حفاظاً على بقائه السياسي، أيّ حركة إسرائيلية مناهضة للحرب في غزّة ستؤدّي حتماً إلى زيادة التشرذم والانقسامات الداخلية الإسرائيلية، بحيث يبدو أي حديث عن الحل السياسي بمثابة دعوة إلى حرب أهلية إسرائيلية.