هل السنغال استثناء أفريقي؟
بعد إعلان فوز مرشّح المعارضة في الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم 24 الشهر الماضي (مارس/آذار) يصبح باسيرو ديوماي فاي الرئيس الخامس للسنغال، والرئيس الثالث الذي يتولى السلطة عقب انتخابات تعدّدية حرّة. إذا كان أحد المعايير الرئيسية لتحديد ما إذا كانت دولة ما ديمقراطية أم لا هو قدرة مواطنيها على الذهاب بانتظام إلى صناديق الاقتراع لاختيار قادتهم، فيمكن اعتبار السنغال، منذ فترة طويلة نسبياً، وفق المعايير الأفريقية، من أكثر الديمقراطيات استقراراً في المنطقة. إنها الدولة الوحيدة في غرب القارّة الأفريقية التي لم تشهد انقلاباً عسكرياً على الإطلاق. في المقابل، شهدت ثلاث عمليات انتقال سلمية إلى حد كبير للسلطة، غير أن هذا التداول السلمي للسلطة لم يكن سهلاً وإنما هو نتيجة لنضالاتٍ شاقّة خاضتها على مرّ الزمن مختلف شرائح الشعب السنغالي لفرض توازن القوى على السلطات القائمة أو من خلال الحوارات السياسية التي أسفرت عن توافق وطني واسع، وأدّت إلى تعزيز الإصلاحات الديمقراطية مثل التعدّدية الحزبية الكاملة، والتعدّدية الإعلامية، وتحديد المدد والولايات الرئاسية المتعاقبة، وتحقيق المساواة بين الجنسين في جميع المؤسّسات الانتخابية، مع تناوب قوائم المُرشّحين بين الرجال والنساء.
كان الانتقال من حكم الحزب الواحد الذي سيطر على السنغال بعد استقلالها في العام 1963 إلى التعدّدية الحزبية صعباً، وصاحبته أزمات سياسية وتحرّكات شعبية واسعة
من ليوبولد سيدار سنغور إلى الرئيس المنتخب باسيرو ديوماي فاي، مروراً بعبدو ضيوف وعبد الله واد وماكي سال، لم يكن المسار الديمقراطي في السنغال نهراً طويلاً وهادئاً. كان الانتقال من حكم الحزب الواحد الذي سيطر على البلاد بعد استقلالها في العام 1963 إلى التعدّدية الحزبية صعباً، وصاحبته أزمات سياسية وتحرّكات شعبية واسعة. في مايو/أيار من العام 1968، اندلعت ثورة بين الطلاب، وأرسل الرئيس سنغور الجيش إلى حرم جامعة داكار. وكان للحركة الطلابية الفضل في تحقيق الاختراق السياسي الأول، وهو فصل الحزب الحاكم عن الدولة، ولاحقاً بداية التعدّدية السياسية بشكل محدود في عام 1976، ثم افتتاح نظام متعدّد الأحزاب بالكامل في عام 1981. غير أن السنغال شهدت أول تغيير ديمقراطي فيها في العام 2000، عندما انتقلت السلطة بشكل سلمي، إثر انتخابات تعدّدية، من الرئيس المنتهية ولايته عبدو ضيوف إلى خليفته عبد الله واد.
رغم انطلاق المسار الديمقراطي، ظلّ شبح التراجع الاستبدادي يلوح، وتكشف أحداث التاريخ السياسي القريب للسنغال عن محاولات متكرّرة للانقلاب على الدستور، وهو ما سعى إليه عبد الله واد عندما رغب في الاستمرار في الرئاسة لولاية ثالثة مخالفاً الدستور، ومحاولة ماكي سال تأجيل الانتخابات الرئاسية، وهي محاولات باءت بالفشل بعد إصرار المجلس الدستوري على إجرائها في موعدها، وكان هذا موقفاً شجاعاً، لكنه لم يلعب دوره إلا من خلال التذكير بأن الدستور فوق الجميع، وهو موقف حاسم افتقرت إليه دول أفريقية أخرى شهدت انقلاباً على الدستور، كما هي الحال في تونس وكوت ديفوار.
ديمقراطية السنغال كانت "منخفضة الكثافة"، إجرائية، انتخابية، من دون مؤسّسات مستقرة تحميها وتضمن استمرارها
عامل مهم آخر أسهم في حماية الديمقراطية السنغالية، هي التعبئة الشعبية، إن إحدى علامات الانتقال الديمقراطي السنغالي وجود مجتمع مدني ديناميكي للغاية، يلعب دوراً رقابياً ويقيّم السياسات العامة، فكان لتعبئة الجمعيات والسكّان ضد ولاية ثالثة لماكي سال تأثيرها في عدم ترشّح الرئيس المنتهية ولايته. إن التحليل الموضوعي لهذه الأزمات المتكرّرة (محاولتي واد وسال للانقلاب على الدستور) يكشف عن هشاشة الديمقراطية السنغالية. وإذا كان في وسع البلاد أن تدّعي بشكل مشروع تحقيق خطوات مهمّة في مسارها الديمقراطي، فإن ديمقراطيتها من ناحية أخرى كانت "منخفضة الكثافة"، إجرائية، انتخابية، من دون مؤسّسات مستقرة تحميها وتضمن استمرارها. وقد أشار الرئيس المنتخب باسيرو ديوماي فاي إلى هذه الأزمة البنيوية التي تنخر النظام السياسي السنغالي، وأعلن أنه سيجعل من أولوياته المصالحة الوطنية، وإعادة بناء أسس العيش المشترك، وإعادة بناء المؤسسات.
تراجعت الديمقراطية في المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية. ومن 2020 إلى 2022، شهد غرب أفريقيا خمسة انقلابات في سياق مزدوج للإرهاب في منطقة الساحل وعلى خلفية الخطاب المناهض للإمبريالية، ويلعب المجتمع المدني دوراً حاسماً في تشكيل الديمقراطية، ولكن الحيّز المدني يختنق في البلدان التي تولّى فيها الجيش السلطة. ومع ذلك، لكل دولة ديناميكياتها التاريخية والسياسية الخاصة، وتختلف الاتجاهات الديمقراطية بشكل كبير تبعا للعوامل التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. البلدان التي نجحت في تنفيذ الإصلاحات المؤسّسية لمكافحة الفساد شهدت عموماً تحسّناً في نوعية ديمقراطيّتها، وقد حافظت السنغال على استقرار نسبي وعلى مسارها الديمقراطي، رغم الصعوبات، في محيط مضطرب، وهو ما يمكن اعتباره إنجازاً في حدّ ذاته.