هل التخلّص من نتنياهو مستحيل؟

29 يوليو 2024
+ الخط -

ها هو نتنياهو يُوشك أن ينهي عامه الأول رئيساً للوزراء، منذ أن هاجمت المقاومة الفلسطينية دولة الاحتلال في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لم يكن يتوقّع أحدٌ حينها أن يستمرّ نتنياهو هذه الفترة كلّها، وكان الجميع يظنّ أنّ دوره السياسي وصل إلى نهايته. كانت عناوين الصحف الإسرائيلية والعالمية وعبارات المُحلّلين تتكلّم على "بيبي المنتهي"، ووُصِف بأنّه "الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب"، وجرى الحديث عن "إسرائيل التي تحتاج إلى قائد جديد"، وعن تصوير ما حدث بأنّه "نهاية لعصر نتنياهو". كان حديث الصحافة ساعتها عن إمكانية "أن تتخلّص إسرائيل من رئيس وزرائها في وسط الحرب"، بل إنّ مصادر كشفت ما تداوله مُقرّبون من الرئيس الأميركي عن "أيام نتنياهو المعدودة في عالم السياسة"، ووصل الأمر بسفير أميركي سابق إلى القول صراحة إنّ "وقت مغادرة رئيس الحكومة الإسرائيلية قد حان"، غير أنّ نتنياهو لم يغادر، ولم ينتهِ عصره، ولم تُغيّر إسرائيل قائدها.
يلعب نتنياهو على عامل الوقت، وهو على يقينٍ أنّه لصالحه، كي يبقى في منصبه مُكملاً ولايته رئيساً للوزراء، وقد بقي عليها عامان وبضعة أشهر. وتُظهر المُؤشّرات كلّها أنّ سياسته تُحقّق نجاحات واضحة؛ فقد تراجعت الضغوط التي كانت تمارس عليه؛ سواء كانت شعبية أم سياسية، داخلية كانت أم خارجية، ولم يعد الحديث عن ضرورة الاستقالة والذهاب إلى انتخابات مُبكّرة مثلما كان في الأسابيع والشهور الأولى للحرب. وعلى ما يبدو أنَّ أحلام السياسيين الإسرائيليين بمغادرة مُبكّرة لنتنياهو قد ذهبت أدراج الرياح، وأنّ الانتخابات المُبكّرة أصبحت أمراً مستبعداً. ومن ثمّ، اضطروا في النهاية إلى التفكير في الانتخابات المُقبلة المُتبقّي عليها أكثر من عامين، وهو ما يعني اعترافاً بالعجز والفشل أمام ذلك المُسنّ، الذي يسعى أن يقضي ما بقي من عمره، حتّى النفس الأخير، في قصر رئاسة الوزراء في شارع بلفور.

أصبحت الحياة السياسية في إسرائيل متمحورة حول نتنياهو، ومن ثم لم تعد المسألة مُتعلّقة ببرامج سياسية لصالح المستوطن الإسرائيلي 

يُؤكّد نجاح استراتيجية نتنياهو استمراره في تقليص الفجوة بينه وبين وزير الحرب السابق، بني غانتس، وفي تحسين فرصه كلّما مرّ الوقت. والظاهر أنّ ذلك دفع القادة السياسيين إلى محاولة قطع الطريق على نتنياهو عبر اندماج كامل بين بعض الأحزاب، أو عقد مفاوضات بين أحزاب أخرى لتشكيل ائتلاف انتخابي. ولعلّ الملاحظة الأبرز فيما يحدث من اندماج كامل أو ائتلاف انتخابي بين بعض الأحزاب يُعمّق حقيقة ما يشبه التلاشي للفروق الأيديولوجية والفكرية بين الأحزاب في القضايا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، كلّها، وحتّى في الموقف من "حلّ الدولتَين"، إذ لم تعد هناك فروق جوهرية بين الأحزاب حولها. يبرهن على ذلك ما شهدته الفترة الماضية من اندماج حزب العمل (من يسار الوسط) وحزب ميرتس (من أقصى اليسار) اندماجاً كاملاً، بعد مفاوضات بدأت منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، اتفق الحزبان في نهايتها على أن يحمل الحزب الجديد اسم "الديمقراطيون"، وأن يترأّسه رئيس حزب العمل يائير جولان. ويبرهن عليه أيضاً تلك المفاوضات الجارية بين رئيس حزب يمينا، نفتالي بينت، العائد إلى السياسة، بعد أن قرّر الانسحاب من العمل السياسي قبل آخر انتخابات، وهو المُنتمي إلى التيّار الديني القومي، ومعه أيليت شاكيد المُنتمية إلى التيّار نفسه، ورئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان، المنتمي إلى اليمين الليبرالي العلماني، مع احتمال انضمام جدعون ساعر، المنتمي، وفق تعبيره عن نفسه، إلى يمين الوسط. وفي حال توصّل الأطراف إلى اتفاق نهائي حول هذا الائتلاف المُزمَع، فهو يستهدف بالتأكيد الحصول على أكبر كمّ من أصوات اليمين، من أجل الخصم من رصيد حزب الليكود، والتخلّص من زعيمه (نتنياهو).

يُؤكّد نجاح استراتيجية نتنياهو استمراره في تقليص الفجوة بينه وبين وزير الحرب السابق، بني غانتس، وفي تحسين فرصه كلّما مرّ الوقت


يكشف استطلاع رأي نشرته صحيفة معاريف في 19 يوليو/ تمّوز الجاري، بشأن السؤال: من ستنتخب لو عقدت الانتخابات الآن؟ وقد اهتم الاستطلاع بالإجابة عن السؤال في حالة التصويت للأحزاب في تكوينها الحالي، وفي حالة اتفاق ليبرمان وبينت وساعر على عقد تحالف انتخابي. وكشف الاستطلاع في الحالة الأولى أنّ حزب الليكود يأتي في المركز الثاني، مع استمراره في تحسين وضعه إلى 21 مقعداً (بعد أن كان تردّى إلى 17 مقعداً في أول الحرب)، وتضييق الفجوة بينه وبين حزب المعسكر الرسمي بزعامة بني غانتس، الذي يستمرّ في التراجع ليحصل على 23 مقعداً فقط، متراجعاً عن 38 مقعداً في الشهور الأولى للحرب. في الاستطلاع كذلك، يقفز حزب إسرائيل بيتنا، بقيادة أفيغدور ليبرمان، فيحل ثالثاً بـ14 مقعداً بعد ستّة مقاعد في آخر انتخابات، وبعده "يوجد مستقبل"، بقيادة يائير لبيد، بـ13 مقعداً فقط، بتراجع كبير عن 24 مقعداً حالياً، ويتحسّن حزب عوتسماه يهوديت بعشرة مقاعد، منفرداً من دون حزب الصهيونية الدينية بأربعة مقاعد فحسب (مجموع أصواتهما 14 قوتهما الحالية نفسها معاً)، كما يتحسّن اليسار اليهودي (حزب الديمقراطيين، الذي تأسّس باندماج حزب العمل وحركة ميرتس)، ويحصل على تسعة مقاعد بدلاً من أربع حالياً لحزب العمل.
يفيد هذا الاستطلاع في احتماله الأول بأنّ غانتس ليس سياسياً مُحنّكاً، ويُدمّر نفسه بيده، فبعد أن كانت حظوظه تصل إلى 38 مقعداً في أول الحرب، ونتيجة اختياراته الخاطئة دائماً تراجع إلى وضعه الحالي، وسيتراجع أكثر مع الوقت. كما يكشف الاستطلاع أيضاً أنّ سياسة نتنياهو المُعتمدة في النفس الطويل على إصلاح وضع الحزب بعد كارثة "7 أكتوبر" هي سياسة ناجحة تماماً، وأنّه السياسي الأكثر حنكة في دولة الاحتلال.
أما في الحالة الثانية، فيحصل ائتلاف ليبرمان وبينت وشاكيد وساعر على 24 مقعداً في المركز الأول، ويبقى "الليكود" عند وضعه من دون خسارة حقيقية في الاستطلاع في الحالة الأولى، ويتراجع غانتس أكثر إلى 18 مقعداً، أي إنّ هذا الاندماج يقتطع من غانتس، ومن لبيد الذي قد يحصل على 11 مقعداً، ومن حزب الديمقراطيين الجديد ("العمل" و"ميرتس")، قد يحصل على سبعة مقاعد، لكنّه لا يقتطع من نتنياهو كثيراً. أمّا المثير في استطلاعي الرأي فهو أنّ النتيجة النهائية لن تسمح لأحد على الأغلب بتشكيل حكومة، وفي هذه الحالة يكون نتنياهو هو الرابح مرّة أخرى. وهذا كلهّ، إذا كانت الانتخابات الآن بالتأكيد، لكنّها ليست كذلك، وكل الاحتمالات واردة.

لم يعد الناخب في دولة الاحتلال يذهب للاختيار بين الأفضل، بل على أساس الرغبة في التخلّص من الأسوأ (نتنياهو)

ثمّة ملاحظة أخرى، ترتبط بالسابقة ولا تقل عنها أهمية؛ إذ أصبحت الحياة السياسية في إسرائيل متمحورة حول شخص نتنياهو، ومن ثم لم تعد المسألة مُتعلّقة ببرامج سياسية لصالح المستوطن الإسرائيلي، وأصبحت السياسة نفسها هامشية، والاقتصاد أمراً فرعياً، وتلاشى الاهتمام بإصلاح الخروق الكثيرة، التي لم تعد هناك إمكانية لترقيعها، وهكذا أصبح نتنياهو نفسه هو البرنامج، وتراجعت الأيديولوجيا، وتمحور كلّ شيء حول شخصه؛ ننتخب من أجل التخلّص منه أم من أجل بقائه. حين نعود إلى آخر انتخابات وسابقتها، نجد أنّ أحاديث السياسيين واستطلاعات الرأي وعناوين الأخبار والتحليلات كانت تتمركز حول وجود مُعسكرَين؛ مع نتنياهو وضدّه، وهذا ما أنتج في الانتخابات قبل الأخيرة حكومة ليبيد/ بينت، وهي حكومة لم يكن لها علاقة بأيّ رؤى أو أيديولوجيا تضمّ اليمين والوسط واليسار، بل حزباً عربياً أيضاً، فكانت خليطاً غير متجانس لم يكن بإمكانه أن يستمر.
لا نعرف بالتأكيد كيف ستسير الأمور، فما زالت الأيام حُبلى بالأحداث، وما زال هناك أكثر من عامين في عمر هذه الحكومة، لكن المرجّح أنّها ستكمل عهدتها، وأنّ ذلك المسنّ ذا الأرواح السبعة سيثبت أنّه أذكى السياسيين الإسرائيليين، وسينجح مرّة أخرى في إظهار تفوّقه على جميع السياسيين الإسرائيليين الفاشلين، وتخطّي عقبة كبيرة ظنّوا أنّها قد قضت عليه. هكذا أصبحت السياسة في دولة الاحتلال، فلم يعد الناخب يذهب للاختيار بين الأفضل، بل على أساس الرغبة في التخلّص من الأسوأ (نتنياهو)، وبات ذلك البند هو أساس الدعاية التي يستخدمها السياسيون أنفسهم. وهي دعاية تنطوي على رسالة ضمنية مفادها أنّ مطاردتهم لنتنياهو تعني تقدّمه الدائم عليهم، وأنّهم بينما ينشغلون به، لا يعيرهم اهتماماً، إلّا بقدر ما تتطلّبه السياسة، ولا يهتمّ إلّا بنفسه، وقصر رئاسة الوزراء في بلفور، ومن الواضح أنّ صفحة نتنياهو لم تطوَ بعد.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.