هل أعطت تونس ظهرها لقارّة حملت اسمها؟
(1)
حراك البشر من مكان إلى مكان في أنحاء المعمورة، وإن يجري منذ عقود عديدة وكأنهُ تسفار اضطراري، فإنّه يشكّل ظاهرة التفت إليها كبار المجتمع الدولي في هذه السنوات المتأخّرة، بسبب اتصالها بتحدّياتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية، تكاد أن تفلت من السيطرة والتحكّم. لقد توافق الكبار للنظر بعمقٍ للعلاقات بين دول الشمال والجنوب، وابتدروا إلى ذلك حواراً بين الكتلتين، كلف بإدارته المستشار الألماني، ويلي براندت، شغل العالمين في سنوات السبعينيات من القرن العشرين. التفت المجتمع الدولي إلى مخاطر التباينات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين بلدان الجنوب النامي وبلدان الشمال المتقدّم، وصارت أجندة القضاء على الفقر مبحثاً دولياً شغل الأمم المتحدة، فاعتمدته في خططها المستقبلية.
(2)
غير أن الذي فاقم من تلك المخاطر تردّي الأحوال السياسية والاقتصادية في دول عديدة في الجنوب بالعقود الأخيرة من القرن العشرين. بعد القضاء على الاستعمار بكلّ أشكاله، وانفتاح الأطراف الدولية لتوافق إيجابي لمساواة وعدالة، ليس في الفرص الاقتصادية وفي اقتسام الموارد، بل أيضاً في مجالات السياسة وأسس الحكم الرشيد. لقد شهدت أعدادٌ معتبرة من بلدان العالم الثالث سقوطاً مدوّياً في اختبار إدارة بلدانها بعد نيلها الاستقلال، بما جعلها عرضة لاهتزازاتٍ لم تتحقق معها النهضة المرجوّة، فأحدث ذلك تفاقماً في اتّساع الفجوة بين عالمٍ متقدم في الشمال وعالمٍ في الجنوب تراجعت أحواله. إذ برغم الطفرات التي أحدثتها العولمة، إثر ثورة الاتصالات والتواصل، خسرت معظم بلدان الجنوب فرصها في النهوض، وعجزت نُخبها عن إدارة أحوالها. تصاعدت وتيرة الصراعات الداخلية في العديد من بلدان الجنوب، بل واندلعت في بعضها حروب أهلية طاحنة وجولات اقتتال دامٍ. وهكذا، بعد غروب شمس النخب الكولونيالية، ونيل كثير من بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية استقلالها، أشرقت في معظم بلدان الجنوب شمسٌ حارقة تسلّطت فيها نخب فاشلة، تركت لشعوبها مصائر أفضت بها لسيطرة أنظمة شمولية فتسلط عليها طغاة، وتنامت تيارات التمرّد والتطرف السياسي، وما سمّاه الغرب المتقدّم الإرهاب الدولي، والذي استوجب اتّباع سياسات حاسمة وقاسية في أحايين بقصد احتوائه.
وثقت تقارير فضائية عالمية بالصوت والصورة كيف كان يساق القادمون من بلدان أفريقية، وبعضها عربية أفريقية، عبيداً في رابعة النهار
لك أن تنظر في الذي جرى بالعقود الأخيرة من القرن العشرين، في بلدان مثل العراق وأفغانستان والصومال ورواندا والسودان، لتستيقن كيف انزلق المجتمع الدولي إلى مواجهاتٍ متصاعدة، وجدت حيالها أكثر الشعوب طريقاً لها في الهرب من مصائرها إلى ملاذاتٍ حملوا إليها أحلامهم وطموحاتهم. ولكن دون الوصول إليها جبال وبحار ومحيطات. تفاقمت إثر ذلك كله ظاهرة الهروب من الجنوب إلى الشمال بكل تجلياتها وتداعياتها وسلبياتها. شعوب بلدان القارّة الأفريقية هم أكثر من دفعوا أثمان تلك المخاطر.
(3)
هكذا صار العالم في العقود الأخيرة، وبصورة افتراضية محضة، أكثر اختصاراً للجغرافيا، وأوسع إدراكاً لظواهر التاريخ، فاتّسعت معه الهوّة بين عالمٍ قطع أشواطاً في التقدّم وعالمٍ يلهث وراء أحلامٍ لنموٍّ سياسي واقتصادي صار تحقيقه مستحيلاً، في واقعٍ شكّله طغاة وانقلابيون وجنرالاتٌ في متاهاتهم. لم يعد أمام شعوب في العالم الثالث، وخصوصاً في القارّة الأفريقية، من خيار سوى الهرب إلى عوالم تتيح لهم فرصاً لحياة أكثر رغداً وأوفر كرامة، في مجتمعٍ دولي يزداد فيه غنى الأغنياء، ويطحن الجوع فقراءه إلى حدود الهزال، إن لم يكن إلى الفناء في آخر الشوط.
لو كان الأمر محض هجرات منظمة سلسة، لما أثار ريباً ولا تحفظاً، لكن حين نرى فرار جماعاتٍ معتبرة من شعوب بأكملها، تهرب بجلودها من طغيان حكامها، ومن صراعاتها الداخلية، ومن حروبها الدامية، وصارت مصائر بعضها على حواف إبادة جماعية، فإن المجتمع الدولي بات مسؤولاً من واجب الحرص على السِّلم والأمن الدوليين، فأنشأ إثر ذلك محاكم جنائية خاصة، تتصدّى لتبعات تلك الظاهرة، والعمل على إيجاد حلولٍ ناجعة ومعالجات حاسمة.
(4)
وإذا أمعنّا النظر في تلك الظاهرة وفي تبعاتها، سنرى، أول ما نرى، خروج كثيرين ناقمين على أنظمة بلدانهم من ناحية، لما لاقوا من عنتٍ واضطهاد، ثمّ تزايدت، من ناحية أخرى، نقمتهم على البلدان التي تستضيفهم. تختلط هنا أسباب السياسة مع أسباب الاقتصاد والاجتماع. تتفاقم مع تلك الظواهر ممارساتٌ سلبية في البلدان الطاردة، كما في البلدان المستقبلة. ولن نسهب في المعروف والمعلوم، إذ نشطت في البلدان الطاردة، وبسبب اضطراب أحوالها الداخلية، على سبيل المثال لا الحصر، ظاهرة الاتجار في البشر، والتعامل مع الإنسان باعتباره سلعة تباع وتُشترى، بما يصل إلى درجة الاسترقاق لأناسٍ ولدوا أحراراً. لقد وثقت تقارير فضائية عالمية بالصوت والصورة كيف كان يساق القادمون من بلدان أفريقية، وبعضها عربية أفريقية، عبيداً في رابعة النهار.
يعجب المرء من أن يرى الرئيس التونسي يقرّر إعادة لاجئين هاربين من نيران الحرب في بلادهم إلى مصائر مجهولة
أبدت بعض البلدان الأوروبية تضجرّها، لكونها صارت قبلة لهجرات اللجوء في بدايات الظاهرة، ثمّ تنبّهت، لاحقاً بعد تكاثرها، إلى بعض مخاطرها وتداعياتها. لقد خالطت ظاهرة اللجوء الجماعي والهجرات غير القانونية عبر البحار والمحيطات، تحدّيات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وتشابكت معها ملفات الإرهاب الدولي، وسلبيات التكيّف الاقتصادي والادماج الثقافي، في واقع لا يشبه واقع تلك البلدان التي هاجروا منها.
(5)
لقد شهدت بعض بلدان شمال أفريقيا ظاهرة ركوب مهاجرين أفارقة مخاطر عبور البحر المتوسط بسفن صغيرة وقوارب غير مأمونة، ليبتلع البحر المتوسط أغلبهم، أو تنجح قلة منهم في الوصول إلى سواحل أوروبا، لكنهم لا يجدون ترحيباً يذكر. بعض مواطني بلدان غرب أفريقيا تسللوا للوصول إلى تونس ليلاقيهم مهربون محترفون في التهريب، يأخذونهم في قوارب غير مأمونة إلى مصائر يحفّ بها الموت. وتابعنا أخيراً تلك الاتفاقية التي أبرمها الاتحاد الأوروبي مع حكومة تونس لاحتواء الظاهرة، غير أن تونس، وهي الأرض التي كانت تاريخياً، أول من حملت اسم "تونس - أفريقيا"، فإذا برئيسها، بصرامته المعهودة، يعطي ظهراً للأفارقة الهاربين من بلدانهم، ويعيدهم إلى بلدانهم، ثم يبرم ذلك الاتفاق المستعجل مع الاتحاد الأوروبي، لتنفيذ إجراءات أمنية، حسبت قيادة الاتحاد الأوروبي، مثلما حسبت القيادة التونسية، أنّهما معاً سينجحان بذلك في احتواء الظاهرة. ولقد شاهدنا سودانيين ضاقت بهم بلادهم والحرب الدائرة لم تترك أخضر ولا يابساً فيها، فيعجب المرء أن يرى ذلك الرئيس التونسي الصارم يقرّر إعادة مثل هؤلاء اللاجئين الهاربين من نيران الحرب في بلادهم إلى مصائر مجهولة. لو جرى تنفيذ اتفاق الاتحاد الأوروبي وتونس، على ما فيه من نقائص، فهو يشمل، فيما يشمل، إرسال مواطنين سودانيين هم ذوو هوية عربية أفريقية، إلى بلادهم، ليلقوا حتفهم في أتون حربٍ طاحنة لا تعرف لها نهاية في السودان.
(6)
لا أظنّ أن الاتفاق الذي وقعته حكومة قيس سعيّد في تونس مع الاتحاد الأوروبي سيجد ترحيباً من منظمات إقليمية تنتمي إليها تونس، مثل الاتحاد الأفريقي، بل وربما تلتفت إلى سلبياته ونقائصه المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، والمعنيّة بذلك الملف أيضاً. لا بدّ من أن يصدر صوتٌ ناصح بأنَّ ظاهرة الهجرة غير القانونية عبر البحر المتوسط، ومثلها هجرات غير قانونية في العديد من أنحاء المعمورة هي أعقد من أن تُجدي معها الإجراءات القانونية والمعالجات الأمنية، بل هي أعقد من ذلك بكثير.