هذه المواقف الإسرائيلية من لبنان
يعتقد الإسرائيليون أن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، يعرف جيداً نقاط ضعف المجتمع الإسرائيلي، وأنه خبير بالحرب النفسية، ما يمنحه قدرة كبيرة على استفزاز إسرائيل وتحدّيها من دون المخاطرة بالدخول في مواجهة عسكرية واسعة النطاق معها، سواء كانت "أياماً قتالية" كما يسمّيها الإسرائيليون، أو تصعيداً يقود إلى حرب. لكن الاستفزاز الذي يقوم به حزب الله في الأسابيع الأخيرة، والمتمثل بنصب خيمتين ما وراء الخط الأزرق، وبحسب زعم الإسرائيليين في داخل الكيان، وإطلاق صاروخين مضادّين للمدرّعات سقطا بالقرب من قرية الغجر الحدودية، وتحريك الحزب مجدّداً ملف القرية، واعتبار إقامة سياج يفصل الجزء اللبناني منها عن لبنان بمثابة تعدٍّ صارخ على السيادة اللبنانية، في هذا التوقيت تحديداً، مع بدء موسم الاصطياف، ووصول مغتربين لبنانيين كثيرين لقضاء عطلة الصيف في لبنان، يطرح علامات تساؤلٍ بشأن ما إذا كان حزب الله وقائده مدركين تماماً المخاطر الحقيقية التي يمكن أن تؤدّي إليها التطوّرات، أخيراً، على الحدود على أمن لبنان، وعلى استقرار الوضع على الحدود وفي منطقة نفوذ حزب الله في الجنوب اللبناني.
استخدمت إسرائيل، منذ البداية، لغة المبالغات، واعتبرت الخيمتين اللتين نصبهما حزب الله أخيراً على الحدود في منطقة مزارع شبعا "انتهاكاً "خطيراً للسيادة الإسرائيلية، وادّعت أنهما يشكلان خرقاً "فاضحاً" للقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن في نهاية حرب تموز (2006). وحمّلت الحكومة اللبنانية المسؤولية عما يجري، وطالبتها بتفكيك الخيمتين على الفور، كذلك أرسلت رسائل من خلال الولايات المتحدة وفرنسا إلى لبنان في هذا الشأن، وهدّدت باستخدام القوة، حتى لو كلف الأمر الدخول في مواجهة عسكرية. كذلك، تقدم سفير إسرائيل في الأمم المتحدة بشكوى ضد لبنان، مطالباً بتحرّك سريع وفوري لوقف "الانتهاكات" الصارخة لحزب الله، وتخطّيه الخط الأزرق الذي جرى ترسيمه بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في عام 2000.
نيّة مبيّتة لدى إسرائيل لجرّ حزب الله ولبنان إلى موقف صعب ومعقّد
ولم يقتصر التهويل على المستوى الرسمي والحكومي، بل تعدّاه إلى مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، فنشر معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل، المعروف عموماً برصانته، بياناً دعا فيه الحكومة الإسرائيلية إلى استغلال موضوع الخيمتين، لتلقين حزب الله درساً وترميم صورة الردع الإسرائيلي التي تآكلت أخيراً، واصفاً الوضع الناشئ على الحدود مع لبنان "بالفرصة الاستراتيجية" التي على إسرائيل استغلالها من أجل ما سمّاه المعهد "كبح مساعي حزب الله لتوسيع وجوده بالقرب من الحدود، وإيجاد واقع جديد من خلال التسلل إلى الأراضي الإسرائيلية". وأوصى المعهد بأنه في حال فشل المساعي الدبلوماسية لإزالة الخيمتين (أصبحتا واحدة بعد تفكيك إحداهما في هذه الأثناء) بالقيام بعملية عسكرية محدودة "حازمة ومخادعة وتتخطّى توقعات حزب الله".
وقد جرى هذا كله في خضمّ عمليةٍ عسكريةٍ محدودة شنّها الجيش الإسرائيلي على مخيم جنين استغرقت يومين، وتوتّر كبير في الضفة الغربية وغزّة وقلق من امتداد التوترات إلى الحدود الشمالية مع لبنان.
ويبدو واضحاً أن استفزاز الخيمتين اللتين أقامهما حزب الله في منطقة مزارع شبعا المختلَف عليها بين إسرائيل ولبنان، والتي خط ترسيم الحدود فيها موضع جدل وخلاف، حوّلته إسرائيل إلى مشكلة مركزية أمنية من الدرجة الأولى، وكأن هناك نيّة مبيّتة لدى إسرائيل لجرّ حزب الله ولبنان إلى موقف صعب ومعقّد، وهو الغارق في خضم أزمة مالية اقتصادية وحياتية ومأزق سياسي مع شغور في رئاسة الجمهورية وحكومة تصريف أعمال بالكاد تستطيع القيام بالمهمّات المطلوبة منها.
ليست النيات الإسرائيلية المبيّتة ضد حزب الله نتيجة الاستفزاز منه أخيراً، بل تعود إلى وقت سابق، ولا سيما بعد الهجوم الذي شنّه فلسطيني في 13 مارس/ آذار الماضي، تسلّل إلى إسرائيل من الحدود اللبنانية، وفجّر عبوة ناسفة في منطقة مجدّو أدّى انفجارها إلى مقتل مواطن عربي يحمل الجنسية الإسرائيلية، فمنذ تلك الحادثة هناك شعور متزايد وسط الأوساط الأمنية الإسرائيلية بأن حزب الله بدأ يتصرّف بجرأة وثقة كبيرة بالنفس، اعتقاداً منه أنه يستطيع استغلال حالة الانقسام الداخلي الإسرائيلي بشأن الإصلاحات القضائية، من أجل استفزاز إسرائيل وتحدّيها من دون التورّط في مواجهة علنية ومباشرة معها.
تغيّر في التعامل مع استفزازات حزب الله التي ردّ عليها الجيش الإسرائيلي بطريقة مدروسة
وفي الواقع، شهدت الحدود، طوال الأشهر الماضية، خطوات استفزازية قام بها الطرفان، مثل مضايقات من الجانب اللبناني للحدود لسكان المستعمرات الإسرائيلية المتاخمة لها، وتجاوز آليات تابعة للجيش الإسرائيلي الخطّ الأزرق وتجريفها الأرض، وأبراج المراقبة التي أقامها الحزب على طول الحدود في منطقة عمل قوات الطوارئ، ونشاط جمعية أخضر بلا حدود التي تتهمها إسرائيل بأنها غطاء يستخدمه الحزب لتمويه نشاطه العسكري، لكن ذلك كله معروف منذ وقت، ويدخل ضمن إطار لعبة لها قواعد معروفة من الطرفين ومضبوطة، حالت دون انزلاقها إلى ما هو أخطر. لكن القراءة المتأنية للمواقف الإسرائيلية الرسمية، وجديدها أخيراً تصريحات وزير الدفاع، يوآف غالانت، أن "إسرائيل ستردّ بطرق علنية وسرّية على انتهاك سيادتها"، ومراجعة التحليلات الإسرائيلية التي صدرت تعليقاً على إطلاق الصاروخين من لبنان، تشير إلى حدوث تغيّر معين في التعامل مع استفزازات حزب الله التي ردّ عليها الجيش الإسرائيلي، حتى اللحظة، بطريقة مدروسة ومحسوبة ومحدودة.
قد يعطي ما جرى أخيراً في مخيم جنين للاجئين فكرة عن الطريقة التي يفكر فيها رئيس الأركان الجديد للجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، الذي لم يتوانَ عن إدخال ألف مقاتل مدجّجين بالمدرّعات والجرّافات ومزوّدين بأحدث الإلكترونيات ووسائل القتال الحديثة إلى مخيم جنين، الأكثر فقراً واكتظاظاً سكانياً، وتدمير بنيته التحتية وتهجير ثلاثة آلاف شخص من سكانه من أجل ما سمّاها الإسرائيليون "استعادة حرّية التحرك" في المخيم، و"كيّ وعي" سكّان المخيم وترهيبهم من احتضان المقاومين الفلسطينيين.
يمرّ لبنان في مرحلة دقيقة، وتحوط به المخاطر من كل مكان، الأمر الذي يتطلب قيادة حكيمة وواعية وقراءة متبصّرة لما يجري وعدم الانجرار إلى حساباتٍ خاطئةٍ واستفزازتٍ لا فائدة منها في التعامل مع عدو خطر وشرس، مثل إسرائيل.