هذه القطيعة بين المغرب وفرنسا

27 سبتمبر 2023
+ الخط -

تجاوزت العلاقات المغربية الفرنسية مرحلة الخلاف والتوتر التي استمرت العامين الماضيين، شهدت فيهما تدهورا متسارعا إلى حد التحوّل إلى أزمة دبلوماسية حقيقية. وفي الوقت الحالي، انقطعت كل الاتصالات بين باريس والرباط التي لم يعد لها سفير في باريس منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، وحتى عندما حاول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الاتصال هاتفيا بالملك محمد السادس لتعزيته على خلفية الزلزال الذي ضرب المغرب وخلف نحو ثلاثة آلاف قتيل، رفض العاهل المغربي استقبال المكالمة، في إشارة إلى أن العلاقة بين الرجلين وصلت إلى القطيعة النهائية.

وجاءت الأزمة أخيرا على خلفية رفض المغرب قبول المساعدة الفرنسية لإنقاذ منكوبي الزلزال بمثابة القشّة التي قسمت ظهر البعير، وأطلقت العنان للمسكوت عنه في هذه الأزمة التي ظلت صامتة طوال السنتين الماضيتين، قبل أن تتحوّل إلى حرب مفتوحة ومعلنة تخوضها، بالنيابة، وسائل الإعلام بين البلدين، وبلغت حدّتها بلجوء المغرب إلى القضاء الفرنسي لمحاكمة وسائل إعلام فرنسية يتهمها بعدم المهنية في تغطيتها أحداث الزلزال. وبلغ الأمر عند نوع من الصحافة المغربية، المقرّبة من السلطة والمحسوبة عليها، الخوض، بطريقة غير مهنية، في الحياة الخاصة للرئيس ماكرون وميولاته الجنسية، ما يعني أن القطيعة بين ساكني قصر الإليزيه في باريس وقصر المشور السعيد في الرباط، وصلت إلى نقطة اللاعودة.

أسباب هذه الأزمة، التي لم تظهر فجأة، عديدة، يتداخل فيها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والمخابراتي والإعلامي والشخصي، خصوصا على مستوى رئيسي الدولتين اللذين يبدو أن مزاجيهما الشخصيين يتحكّمان في طبيعة علاقات بلديهما أكثر من أي اعتبار آخر. ومع ذلك، تتقدّم الأسباب المعلنة، والمقنعة إلى حد ما، لهذه الأزمة المرشّحة للاستمرار والتدهور، قضية الصحراء الشائكة التي تطالب الرباط بسيادتها الكاملة عليها، وتحوّلت، في السنوات الأخيرة، إلى أولوية مطلقة للدبلوماسية المغربية منذ اعتراف الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بسيادة المغرب عليها عام 2020، مقابل تطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل. وكانت الرباط تنتظر موقفا مماثلا من حليفها التقليدي، باريس، لإعطاء زخم أكبر لدبلوماسيّتها، حتى تنجح في إقناع عواصم دول أخرى كبيرة بالطرح المغربي في هذه القضية. لكن فرنسا التي تلعب دوراً صعباً في تحقيق التوازن في الإمساك بالعصا من الوسط من خلال محاولتها الحفاظ على علاقات جيدة أيضاً مع الجزائر، التي تدعم بقوة جبهة بوليساريو التي تطالب باستقلال هذا الإقليم عن المغرب، حافظت على موقفها "المحايد"، من دون أن يعني ذلك أنها تخلّت عن دعم الموقف المغربي، خصوصا في مجلس الأمن، وهو ما دأبت على فعله منذ وجدت هذه القضية قبل زهاء نصف قرن، حيث حافظ الموقف الفرنسي على نوع من التوازن في موقفه من هذه القضية المعقدة.

ما زالت فرنسا تحتلّ المرتبة الثانية كأكبر شريك اقتصادي للمغرب بعد إسبانيا

وبعيدا عن الأزمة السياسية وتداعياتها الدبلوماسية، تبقى فرنسا موطنا كبيرا للجالية المغربية (ما لا يقل عن 1.5 مليون شخص، نحو 670 ألفاً منهم مواطنون مزدوجو الجنسية). ويأتي المغاربة في صدارة باقي الجنسيات الأجنبية المستفيدة من تصاريح الإقامة الأولى في فرنسا، منذ عام 2018، بمعدل أكثر من 30 ألف منحة سنوياً. وتعد الجالية المغربية ثاني أكثر جالية خصوبة في فرنسا بعد الجالية الجزائرية، بنسبة تناهز 12% مقابل 12.5% عند الجزائريين. وسنويا، الطلبة المغاربة أول الطلبة الأجانب، من حيث العدد، في الجامعات والمعاهد والمدارس العليا في فرنسا. علاوة على ذلك، يقدّر عدد الفرنسيين المقيمين في المغرب بأكثر من 51 ألف فرنسي يتربعون على رأس الجاليات الأجنبية في المغرب، في حين ما زالت فرنسا تحتلّ المرتبة الثانية كأكبر شريك اقتصادي للمغرب بعد إسبانيا، فهي ثاني بلد يصدّر له المغرب منتوجاته، وثاني بلد يورد منه حاجياته، والشركات الفرنسية تحتل المرتبة الثانية بعد الإسبانية داخل النسيج الاقتصادي المغربي، توجد في قطاعات حسّاسة، وتساهم في شركات كبيرة تابعة للهولدينغ الملكي الذي يملكه الملك محمد السادس. كما أن الفرنسية ما زالت اللغة الثانية المهيمنة في البلاد، على جميع المستويات، بل وتعد اللغة الأولى غير الرسمية في كثير من التعاملات المالية والاقتصادية والثقافية.

لذلك، مهما بدت القطيعة الحالية نهائية وحتمية، فهي مرحلية مرتبطة بوجود الرئيس ماكرون، وهي مرشّحة للاستمرار حتى نهاية ولاية الأخير عام 2026، فالنظام في المغرب يراهن في حلّ الأزمة مع باريس على عامل الوقت، وهو ما يفتقد إليه الرئيس الفرنسي المنتخب، والمحكوم وجوده بعهدة تنتهي بعد ثلاث سنوات. وخلال هذا "الوقت الميت"، سوف تضيع مصالح كثيرة بين البلدين، كان من الممكن أن يستفيد منها الشعبان، تماما كما ضاعت أرواح أبرياء في الزلزال الذي ضرب المغرب، وكان يمكن أن يستفيدوا من المساعدات التي رفضتها سلطات بلدهم لو وجدوا من ينقذهم في الوقت المناسب. وهذا هو الجانب السيئ في السياسة، أي تقلّب مزاج السياسيين، تماما كما يحدُث عندما تتصارع الفيلة، فإن ما يتضرّر هو العشب!

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).