هذه التفاهة المجتمعية

27 يونيو 2022

(جابر العظمة)

+ الخط -

يسهُل إطلاق أوصاف معينة على الأفراد، كأن يوصم إنسانٌ بأنه "ثقيل الدم" أو "كئيب" أو "تافه". لكن من الصعب إطلاق هذه الأوصاف وشبيهاتها على تجمّعات بشرية أو شرائح مجتمعية بأكملها. لذا، حين نقول إن شعباً أصبح "تافهاً"، فلا بد أن التفاهة تفشّت فيه حتى لم يعد مُمكناً إنكارها أو حتى إخفاؤها.
أحد الانعكاسات المهمة لهذه الحال أن يُصاب المجتمع بالسطحية والرعونة، فيصير شعباً هلوعاً، يجزع لصغائر الأمور ويتأثر بتوافه الأشخاص. وما تشهده مصر حالياً تعبيرٌ دقيقٌ عن ذلك النمط من التفاهة المجتمعية، خصوصا ذلك القدر الضخم من الأخبار التي يوليها الإعلام المصري اهتماماً، فيما هي لا تحمل مضموناً ولا تخلق وعياً، ولا حتى تناقش قضايا مهمة، وتعكس فقط سطحية الإعلاميين وسذاجة الجمهور. فتتنقل بين مشكلات الممثلين الشخصية، وكيف تواجه فنّانة حر الصيف، وأول تعليق لمطربة بعد طلاقها، والإطلالة الجريئة لفلانة بملابس مثيرة. بينما تُخصّص الفضائيات ساعات طويلة يومياً للخلافات بين الرياضيين بشأن أخطاء الحكام والأهداف غير المشروعة في مباريات كرة القدم. فيما أبطال للعالم في لعباتٍ فرديةٍ يعانون التجاهل، ولا يعرفهم أحد في الشارع. وبينما يتسابق الإعلام في مصر على التوافه في الفن والسواقط في الرياضة، يتجاهل علماء خدموا البشرية ويقدرهم العالم. ورغم أن هذه التفاهة وصمة عار على الإعلام، هي أيضاً نقيصةٌ ملازمة للجمهور المتلقي الذي يقبل من الإعلام ذلك المحتوى الفاسد التافه.
أما عن وسائل التواصل الاجتماعي فحدّث ولا حرج، فهي مرآة حقيقية للعقل الجمعي والمزاج العام للمصريين. ومن أبرز الأمثلة على ضيق الأفق وسطحية التفكير، أو بالتعبير المصري الدارج "قلة العقل"، تفشّي منشوراتٍ تحذّر من وقائع معينة، أهمها عمليات خطف مزعومة تتعرّض لها السيدات. وعلى الرغم من أن تلك المنشورات تظهر من حين إلى آخر منذ بضع سنوات، لكنها انتشرت هذه المرّة على نطاق واسع إلى حدّ أن الحكومة بنفسها خرجت لتنفي تلك المزاعم. وهي بالفعل شائعاتٌ غير منطقية ولا تتسم بأية معقولية. وربما كانت متعمّدة من جهاتٍ ما للتخويف أو لقياس اتجاهاتٍ معينةٍ لدى الرأي العام، لكن الشاهد هو تلك السذاجة والقابلية العالية لدى المصريين لتصديق أي شيء.
وبعيداً من الإعلام، زادت على أرض الواقع أشكالٌ من الجرائم يستخدم فيها العنف الحادّ، ويصل كثيرٌ منها إلى القتل، ووراءها أسبابٌ تعدّ من صغائر الأمور. رجل قتل زوجته لأنها لم تقدّم له الطعام، وشاب قتل صديقه لطمعه في بضعة آلاف من الجنيهات. لهذه الجرائم ذات الدلالة العميقة لجهة تنامي درجة العنف المجتمعي جانبٌ آخر خفي، هو ضيق الأفق وغياب مساحة الحوار والتفاهم. أو باللهجة المصرية العامية "مخّه صغير"، أي محدود التفكير وقابل للاستثارة بسهولة، وهي سمةٌ كان يتندّر بها المصريون قديماً على أهل صعيد مصر.
وبالمثل، انتشرت واشتهرت شخصياتٌ تافهةٌ لا قيمة لها في ميزان الرجال بأي معيار. والغريب أن هؤلاء الذين صاروا أعلاماً، وحققوا ثروات بالملايين، وصاروا أباطرة في الفن والكرة على وجه التحديد، لم يضيفوا جديداً ولم يحقّقوا أي إنجاز في مجالاتهم. بل صار أولئك التافهون يُنظّرون للمجتمع ويُفتون في قضايا عامة يجهلونها ومسائل مجتمعية لا يفقهون فيها شيئاً. وأولئك هم الذين وصفهم الرسول محمد بالرويبضة (توافه الرجال يُفتون في الأمور العامة).
وهكذا تتنوّع المصادر والأشكال، لكنها جميعاً تتفق في دلالة واحدة، أن المصريين لم يعودوا ذلك الشعب الحكيم الرزين الذي بنى الأهرامات وأقام أول حضارة وبنى أقدم مكتبة في التاريخ. بل أصبح شعبا تافها قليل الصبر محدود الأفق، لا يهتم سوى بتوافه الأشياء وأنصاف الرجال.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.