هذا ''المغرب الأخضر''
يشهد المغرب ارتفاعا غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية الأساسية والمحروقات، ما كان له بالغ الأثر على الوضع المعيشي لفئاتٍ اجتماعيةٍ واسعة. ويعيد هذا الوضع إلى الواجهة أسئلة السياسات والبرامج العمومية ذات الصلة. وفي مقدّمتها مخطّط ''المغرب الأخضر''، الذي أشرف على تنزيله رئيسُ الحكومة الحالي، عزيز أخنوش، حين كان وزيرا للفلاحة والصيد البحري في ثلاث حكومات متعاقبة بين 2007 و2021.
استهدف المخطط، الذي خُصّصت له موارد مالية ولوجستية ضخمة، تطوير القطاع الفلاحي وتجويدَ تنافسيته في الأسواق الدولية، وتحقيقَ الأمن الغذائي الوطني، والحدَّ من تأثير التقلبات المناخية على الإنتاج، وإنعاشَ الصادرات الفلاحية، وغيرَها من الأهداف التي بدت، حين انطلاقه، استراتيجيةً قبل أن تتحوّل إلى كابوس مخيف يهدّد الأمن الغذائي الوطني. ففي وقتٍ كان يُنتظر أن يلبّي هذا المخطّط حاجيات السوق الداخلي من المنتوجات الفلاحية، ويحقّق الحد الأدنى من الاكتفاء الغذائي، يقف المغاربة اليوم على حقيقته المُرّة؛ أزمة غذائية، وارتفاعٌ مهولٌ في أسعار المواد الغذائية، وتدنّي القدرة الشرائية لفئاتٍ اجتماعية عريضة. وهو ما أربك الحكومة التي تفتقد، على ما يبدو، بدائل ملموسة للحدّ من تداعيات هذه الأزمة.
كان يُفترض بواضعي مخطّط ''المغرب الأخضر'' ألا يُسقطوا الأمن الغذائي الوطني من حساباتهم، وألا يوجّهوا المخطّط فقط لخدمة مصالح الرأسمال الفلاحي المغربي، أولا بتمتيعه بإعفاءاتٍ ضريبيةٍ مُجزية، وثانيا بإعطاء الأولوية لتصدير معظم ما كان يجري إنتاجُه نحو الأسواق الأوروبية. واليوم، يبدو أن كل السنوات التي ظلّ المغاربة ينتظرون فيها أن يعطي هذا المخطّط أكله قد ذهبت سدى، بعد أن عجزت الحكومات الثلاث المتعاقبة (اثنتان منها قادها الإسلاميون) عن تحقيق الاكتفاء الغذائي. وقد زادت مخلّفات الجائحة، والحربِ الروسية الأوكرانية، وعدم انتظام التساقطات المطرية، وزيادة تكاليف الإنتاج، وارتفاع معدّل التضخّم، ذلك كله زاد المشهدَ قتامة، خصوصا أن القطاع الفلاحي شكّل، منذ الاستقلال، عصب الاقتصاد الوطني وجزءا من معادلة الصراع السياسي، على اعتبار أن السلطة ظلت دائما تعتبر القرى والأرياف خزّانا سياسيا وثقافيا للنخب التقليدية (الأعيان) في مواجهة التطلّعات الإصلاحية والديمقراطية للنخب الحضرية في المدن والحواضر الكبرى.
إضافة إلى ذلك، لم يساهم المخطّط في إعادة هيكلة القطاع الفلاحي بما يُقلّص من نسبة الفقر، ويحسّن الوضع المعيشي والاجتماعي للفلاحين الصغار في الوسط القروي الذي لا يزال يعاني من التهميش والعزلة. حتى مساهمته في تشغيل اليد العاملة تراجعت نسبتُها في السنوات الأخيرة بسبب غياب رؤيةٍ متسقةٍ تستوعب التناقضات الاجتماعية والبيئية والمجالية في الوسط القروي، هذا من دون السّهو عما واكبه من استنزاف جزءٍ كبير من الموارد المائية نتيجة التركيز على زراعاتٍ بعينها (الأفوكادو مثالا لا حصرا) بقصد تصديرها.
فشلُ ''المغرب الأخضر'' بهذه الطريقة الدراماتيكية يضيّق الخناق أكثر على الاقتصاد الوطني، ويجعله تحت رحمة الأسواق الدولية فيما يتعلق بتأمين الحاجيات الغذائية الأساسية. وقبل هذا وذاك، يسائل السياساتِ والبرامجَ العموميةَ المطبّقة ومدى قدرتها على تلبية تطلّعات المغاربة في أكثر من شأن. قد يقول قائل إن هذا المخطّط ساهم في تنمية القطاع الفلاحي ورفْعِ نسبة الصادرات الفلاحية نحو الاتحاد الأوروبي، ونجح في أن يجعل من المغرب ثالث مُصدّر للمنتوجات الفلاحية الغذائية (حسب بيانات وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات) في المنطقة العربية، غير أن كل هذه ''الإنجازات''، على أهميتها، كانت على حساب الأمن الغذائي لفئاتٍ اجتماعيةٍ واسعة وجدت نفسها، بين عشيّة وضحاها، تعاني الأمرّيْن، كي تؤمن حاجياتها اليومية من المواد الغذائية التي تشهد ارتفاعا صاروخيا في أسعارها.
كشف مخطّط ''المغرب الأخضر'' أعطابا بنيوية لا تقيم فقط في السياسة الفلاحية المتبعة، بل في معظم السياسات والبرامج العمومية، فلا خير في سياسات وبرامج لا تضعان ضمن أولوياتها خدمة المواطن وتأمين معيشه اليومي، ولو في الحدود الدنيا.