هذا العبث الفلسطيني

20 اغسطس 2018
+ الخط -
عندما تصادف في قراءتك البيان الذي صدر، قبل أيام، عن اجتماعٍ للمجلس المركزي الفلسطيني (البرلمان المصغر لمنظمة التحرير) أن المجلس (بحضور 108 من أصل 140 عضوا) يرفض "صفقة القرن"، ويعتبر الإدارة الأميركية شريكا لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، فإنك قد تظن أن الذين اجتمعوا شربوا حليب السّباع، قبل أن يزدروا إدارة الرئيس دونالد ترامب كما فعلوا في رفضهم تلك الصفقة (ما هي بالضبط؟)، وفي إشهارهم شراكة هذه الإدارة مع الاحتلال الإسرائيلي. غير أنك عندما تُشاهد، في اللحظة نفسها التي أُعلن فيها هذا البيان، آلاف الفلسطينيين من قطاع غزّة في أسوأ حالٍ في انتظار أن تتعطّف السلطات المصرية باحترام آدميتهم عند معبر رفح، فإنك لا بد ستسأل عن السبب الذي يجعل المجلس المذكور، ومثله كل هيئات منظمة التحرير ومؤسسات السلطة الفلسطينية، الشرعية منها وغير الشرعية والبيْن بيْن، أصمّ وأعمى وأخرس بشأن هؤلاء الناس. وليس مطلوبا، في أيّ حال، أن تُفتعل أي مشكلةٍ في العلاقة مع مصر، وإنما أن تكترثَ منظمة التحرير بهذه القصّة السخيفة المسمّاة معبر رفح، والتي يتذرّع الحكم في مصر بكلامٍ كبيرٍ عن أمنٍ قوميٍّ، واعتباراتٍ أمنيةٍ في إغلاق هذا المعبر، وفتحه ساعاتٍ أو أياما. المطلوب أن تعرف رئاسة السلطة الوطنية (وهي رئاسة منظمة التحرير طبعا) أن هناك سأما فلسطينيا مهولا من كل اجتماعاتٍ من قبيل هذا الذي انعقد أخيرا لمجلسٍ مركزيٍّ، شائخٍ وباهتٍ، منقوص الشرعية، بعد أسابيع من اجتماع لمجلسٍ وطنيٍّ، أكثر شحوبا وفقدانا للشرعية، طالما أن الفلسطينيّ، عند معبر رفح مثلا وخصوصا، لا يستشعر أي معنىً لكل هذا الكلام الذي يتوالى بثّه في هذا الاجتماع وذاك.
القصة المملة، والعتيدة في سماجتها، لم تغب في موسم الاجتماع المتحدّث عنه هنا، أي من حضر ومن لم يحضر. تحافظ حركةٌ من هنا وجبهةٌ أو اثنتان من هناك، وحزبٌ أو أكثر، على هذا التقليد الراسخ في العمل المؤسساتيّ الفلسطيني إيّاه، منذ جبهات الرفض والصمود والتصدّي، إبّان الزمن البيروتي، وصولا إلى فلكلوريات رام الله المتوالية، والتي صار من طقوسها أن تُدلي حركة حماس بما في دلائها في هذا كله، فتعلن مثلا رفضها مجمل البيان الذي يُختتم به هذا الاجتماع وغيرُه، لأن "لا قيمة له". وللحق، فإن لأيّ منا أن يسأل عن القيمة التي يحوزُها حدثٌ من هذا القبيل، أي من قبيل اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني، قبل أيام، فيما بياناتُ اجتماعاتٍ سابقةٍ للمجلس نفسه لم تُؤخذ على محمل الجد، ولم تعرف سبيلها إلى التحقّق. وقبل ذلك وبعده، فيما الحقائقُ الماثلةُ قدّام الجميع تنطقُ بما لا قِبَل لأحدٍ أن يتعامى عنها، ومنها أن في وُسع حركة حماس، وهي خارج منظمة التحرير، أن تحاور مصر وغيرها في أي شأنٍ وأيّ مسألة، وأن تحاورها مصرُ وغيرُها في أيِّ شأنٍ ومسألة، بل وأن تعقد حكومة الاحتلال مع "حماس" تفاهماتٍ جزئيةً أو كليةً، ظرفيةً أو مؤقتةً، بشأن هدنةٍ أو غيرها، وتفاوضها بشأن تبادل أسرى وجثث قتلى، وذلك كله من دون أن تلتفت "حماس"، وكذا مصر وإسرائيل (وغيرهما) إلى وجود رئاسةٍ فلسطينيةٍ في رام الله، ولجنةٍ تنفيذيةٍ ومجلسٍ وطنيٍّ وآخر مركزي. وإذا رأى اجتماعٌ لهذا المجلس وذاك، كما المركزي أخيرا، "التهدئة مع الاحتلال الإسرائيلي مسؤوليةً وطنيةً لمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وليس عملاً فصائليا"، فله ذلك، فليس على الكلام أيّ جمرك.
جاء بيان المجلس المركزي على بعض القضايا كما لو أن من صاغوه يقيمون في المكسيك، سيّما بشأن ما لا حياءَ في وصفها الشائع"إجراءاتٍ عقابية" في حق قطاع غزة، وجاء انعقاد الاجتماع، وما رافقه من تفاصيل وخراريف وحكاياتٍ ومناكفاتٍ ونكاياتٍ، دالا على اهتراءٍ في الحالة الفلسطينية أشدّ بؤسا مما نعرفُ ولا نعرف.. ثمّة تدهورٌ مريع، وتردّ يبعث على أشدّ القلق، والمشهد في مقاطع العبث التي لا تنفكّ تتوالى لا يشجّع على التفاؤل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.