هذا الانحطاط الإسرائيلي

06 ابريل 2024
+ الخط -

لم يسبق أن سمعتُ أو قرأتُ عن رئيس دوله يكرّر القول إن جيش بلاده "من أطهر جيوش العالم"، كما يفعل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. يؤكّد هذا التكرار القول المأثور "يكاد المريب أن يقول خذوني". إنه اعتراف بأن جيشه في عداء مستحكم مع طهارة السلاح ومع أخلاق الفروسية، وبسبب عدم ثقته فيما يزعم يحتاج إلى تكرار زعمه لكي يصدّقه.

يبدأ تدريب أي جندي على استعمال السلاح بالقاعدة الأولى، أن هذا السلاح لحماية الوطن ولا يُستخدم ضد المدنيين العزّل. ويغرس المدرّبون في نفوس جنودهم قاعدة أن الفروسية، وأخلاق الرجال وشهامتهم، تأبى عليهم ممارسة قوتهم ضد شخصٍ أعزل أو طفل أو شيخ. ومن هنا نستذكر الدرس الأول الذي ألقاه الخليفة الراشدي الأول، أبو بكر الصدّيق، على قواته وهي تغادره إلى قتال المشركين: لا تقتلوا امرأة أو طفلاً ولا تعتدوا على الرهبان في صوامعهم ولا تقطعوا شجرة، وكان في ذلك أسبق من كل مدوّنات القانون الدولي الإنساني.

يتصف سلوك الجيش الإسرائيلي بالانحطاط منذ بدايات تكوينه كمؤسسة عسكرية قامت على حماية النهب والسلب والبطش بالإنسان. إنه جيش بلا أخلاق

وفي العصر الحديث، تلجأ الدول إلى وضع مدوّنات قانونية تُعرف بـ "الدليل العسكري"، تبيّن فيه سلوك قواتها المسلحة في وقتي الحرب والسلم، وتبيّن هذه المدوّنات ما على عضو القوات المسلحة أن يسلكه في تعامله مع أعدائه والتزامه بقواعد القتال وعدم التعرّض للمدنيين والأطفال، وعادة ما تكون هذه المدوّنة إلزامية ويترتّب على مخالفتها إخضاع الجندي أو الضابط المخالف لعقوبات محددة في القانون العسكري. ويعتقد الخبراء أن مدوّنة السلوك في غاية الأهمية، لكي لا يتحوّل الجيش إلى عصابات تأخذ القانون بقوة السلاح. وإذا أخذنا هذه المبادئ العامّة لسلوك جيش ذي انضباط والتزام بقواعد القتال وبأخلاق الفروسية، وأسقطناها على جيش الاحتلال الذي يزعم رئيسه أنه "من أطهر جيوش العالم" نجد السبب الذي يحتاج فيه رئيس وزراء العدو إلى الزعم بطهارته عند كل منعطف.

يؤكّد السجل الموثق لهذا الجيش أنه لم يكن طاهراً منذ تأسيسه، فلو بدأنا بسلوكه منذ البدايات (بشكل عام)، فإن آخر ما كتبه المؤرخ الإسرائيلي الذي فضح مجزرة الطنطورة، آدم راز، كتاب "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948" (ترجمة أمير مخوّل، الأهلية للنشر والتوزيع، 2023) وهو يوثق فيه عمليات السرقة والنهب التي مارستها قوات الاحتلال خلال حرب عام 1947/ 1948، حيث يشرح أنهم، ابتداءً بالجندي وانتهاءً بالرتب العالية في الجيش الإسرائيلي، جميعاً شاركوا في سرقة الأثاث والسجاد حتى الأواني المنزلية من بيوت (وممتلكات) الفلسطينيين الذين طُردوا من بيوتهم عنوة في عام 1948، وكانت تلك العمليات تتم بعلم أول رئيس وزراء في دولة الاحتلال، بن غوريون، وموافقته بل وتشجيعه، وهو الذي كان يمثل رأس العصابة. وما نلاحظه حالياً في غزّة أن قوات الجيش "الأطهر في العالم" ترتكب عمليات النهب والسلب نفسها من بيوت الفلسطينيين، بل وتسرق الذهب من النساء عنوة وتحت التهديد، وذلك تحت سمع رأس العصابة الجديد، بنيامين نتنياهو، وبصره.

ليس الانحطاط الذي يمارسه "الجيش الأطهر" مقتصراً على المؤسّسة العسكرية، بل هو "قيمة مجتمعية" في "مجتمع المستوطنين"

ولو استرجعنا، على سبيل المثال، ما فعلته قوات الجيش "الأطهر" في مجزرة الطنطورة، حيث دفنت جثث الأهالي هناك في مقبرة جماعية، وأقيم عليها موقف سيارات ما زال قائماً، ولو قرأنا ما جرى في دير ياسين من قتل الأطفال والنساء الحوامل والتمثيل بجثث الرجال، ولو تذكّرنا ما فعلته قوات الاحتلال في حرب 1967 بإخواننا المصريين الذين ألقوا سلاحهم وهم في صحراء سيناء، بعد أن خسروا الغطاء الجوي، وكيف جرى دفنهم أحياء، لفهمنا ما يقوم به الجيش "الأطهر" في غزّة، حيث يستهدف الأطفال على نحو استثنائي ومن ثمّ النساء (قتل أكثر من 14 ألف طفل وأكثر من تسعة آلاف امرأة)، ثم ارتكاب الأفعال التي تعتقد محكمة العدل الدولية أنها أفعال قد تقع في دائرة جريمة الإبادة، وهذا مؤشّر على درجة بشاعتها. إنه سلوك فاحش لجيش مدجّج بأكثر الأسلحة فتكاً بالإنسان. بشكل أدقّ، إنه سلوك يتصف بالانحطاط منذ بدايات تكوينه كمؤسّسة عسكرية قامت على حماية النهب والسلب والبطش بالإنسان. إنه جيش بلا أخلاق.

ومن الجدير بالذكر أن القاضي الإسرائيلي، أهارون باراك، رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية سابقاً والذي يوصف بأنه القاضي الأكثر ليبرالية من بقية زملائه، وانتدبته إسرائيل ليكون القاضي "المتمم" (ad hoc) في محكمة العدل الدولية، قال، في رأيه المعارض قرار المحكمة الدولية الصادر في 26/1/2024، (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل)، إن كل جندي من أفراد الجيش الإسرائيلي يحمل في حقيبته "كتيّباً يبيّن مبادئ القانون الدولي"، ما يعني "أن القانون الدولي هو الذي يهتدي به جميع جنود الجيش أينما كانوا". وما قاله القاضي باراك عن سلوك محكمة العدل الإسرائيلية يحتاج إلى بحث وردّ آخرين، إنما يجب الرد على ما ساقه لكي يؤثّر على المحكمة (إن استطاع)، إذ يزعم أن "مدوّنة الأخلاق" في جيش الدفاع الإسرائيلي تنصّ على أن "(أ) على الجندي أن يستخدم قوته أو سلاحه لإنجاز مهمته ومتى كان ذلك ضرورياً. وسيحافظ على إنسانيته في أوقات القتال أو في الأوقات العادية. وعلى الجندي ألا يستخدم سلاحه أو قوته لإيذاء المدنيين الحياديين والأسرى...". ولكن التصرّفات التي نشاهدها يومياً على الشاشات تدحض هذا الادّعاء، فما يسمّيه باراك "مدوّنة الأخلاق"، يُفهم منها أنها وثيقة صادرة عن الدولة أو وزارة الدفاع أو هيئة الأركان أو جهة رسمية ذات علاقة. في الواقع، هي ليست مدوّنة ولا علاقة لها بأخلاق القتال التي تعرفها جيوش العالم. أولاً، هي ليست رسمية، وقد أعدّها أسا كاشر، وهو أستاذ للفلسفة في جامعة تل أبيب، ثم ألغيت بعد مرور خمس سنوات، ووضع إليزار ستيرن ما تسمى "روح جيش الدفاع الإسرائيلي"، وهي وثيقة أقلّ صرامة من الأولى، وظلت نافذة المفعول من عام 1996 إلى 2001، إذ جرى وضع وثيقة أخرى بالعنوان نفسه. وفي كل الأحوال، هي وثيقة غير ملزمة، رغم أن قائد الجيش وافق عليها.

في أثناء محرقة غزة الجارية حالياً، وقّع أربعمائة طبيب إسرائيلي عريضة موجّهة إلى قيادة الجيش تطالبه بتدمير المستشفيات

وما يدلّ على أن هذه الوثيقة هي "لاستكمال الشكل والمظهر" ما نشاهده ونعرفه من سلوك الجيش الإسرائيلي. كيف يمكن احترام قوات مسلحة نظامية تتصرّف على النحو الذي تصرف به "الجيش الأطهر" في إزاحة أكثر من مليون إنسان من بيوتهم ومتاجرهم ومستشفياتهم في شمال غزّة إلى جنوبها في وقت تنعدم فيه وسائل المواصلات، ومن دون اعتبارٍ للمرضى الذين على أجهزة التنفس في المستشفيات أو النساء اللواتي في حالة ولادة؟ وكيف يمكن احترام "طهارة السلاح" في وقتٍ يقصف فيه الطيارون الأماكن السكنية والمستشفيات والبنى التحتية، ويقصف والناس هائمون على وجوههم يبحثون عن مأوى أو عن أفراد العائلة الذين ضلّوا الطريق؟ ولا بدّ أن القاضي باراك على علم تامّ بقضية الملازم أزاريا الذي قتل فلسطينياً بدم بارد، وحكم عليه بالسجن 18 شهراً، وحين اعترض محاميه على الحكم، طلب من المحكمة استجلاب 15 ملفاً لحوادث مماثلة، حيث قتل جنود "الجيش الأطهر" فلسطينيين من المسافة الأطهر، وطُويت هذه الملفّات لأن الضحية فيها "غير يهودي"، ما ينزع الغطاء عن الادّعاء بـ "طهارة السلاح".

ليس الانحطاط الذي يمارسه "الجيش الأطهر" مقتصراً على المؤسّسة العسكرية، بل هو "قيمة مجتمعية" في "مجتمع المستوطنين". في أثناء محرقة غزة الجارية حالياً، وقّع أربعمائة طبيب إسرائيلي عريضة موجّهة إلى قيادة الجيش تطالبه بتدمير المستشفيات. هل كان ذلك من مقتضيات يمين أبقراط (الطبيب اليوناني القديم) عند تخرّج المستوطنين الأطباء أم من مقتضيات الصهيونية؟... لقد دعا وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، إلى إلقاء قنبلة ذرية على غزّة، مع العلم أن كمية المتفجرات التي ألقيت عليها تتجاوز ثلاث قنابل ذرية من نوع الذي قصف به الجيش الأميركي مدينة هيروشيما اليابانية في 1945. كما أن رئيس دولة "الجيش الأطهر" يصرح، وهو بالمناسبة محامٍ، بأن جميع من في غزّة يتحمّلون مسؤولية ما جرى في 7 أكتوبر (وهذا يشمل الأطفال)، ولم يشرح لنا هذا المحامي، ماذا جرى للمبدأ القائل إن الأصل براءة الذمة، وإن الشخص بريء إلى أن تثبت إدانته بقرار قضائي قطعي. أليس في هذا انحطاطٌ في المهنة وانحطاط في سلوك رئيس دولة؟

مع هذا المنسوب الاستثنائي من الانحطاط الإسرائيلي، مَن الذي يريد أن يكون مطبّعاً معه أو يستمر في التطبيع معه؟!

B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
أنيس فوزي قاسم

خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين

أنيس فوزي قاسم