هديتان مفخّختان لفلسطين
بفارق ساعات، قتل سوريٌّ طالبُ لجوء في ألمانيا ثلاثة أشخاص طعناً بالسكين وأصاب ثمانية آخرين مساء الجمعة في مدينة سولينغن، قبل أن يفجّر رجل يلتحف بعلم فلسطين سيارة تحتوي على أسطوانة غاز وأضرم حريقاً أمام كنيس لليهود صباح السبت في مدينة لا غراند موت. سارع تنظيم داعش إلى تبنّي الجريمة الألمانية في بيان احتفى باستهداف "تجمّع للمسيحيين انتقاماً للمسلمين في فلسطين وفي كل مكان"، أما في الحادثة الفرنسية، فظلّ الرجل هارباً حتى كتابة هذه السطور، ولم يسقط قتلى بل بضع إصابات طفيفة.
هكذا وجدت فلسطين نفسها عنصراً مشتركاً في الحادثتين الألمانية والفرنسية. الكلام على مدى الضرر الذي تسبّبه هجمات من هذا النوع للحق الفلسطيني وللعرب والمسلمين والمهاجرين عموماً سيكون تكراراً مملاً. قبل أن تسبّب الضرر لهذا الحق، وقبل أن تقدّم خدمات جمة للرواية الإسرائيلية عن "همجية" من تحاربهم، فإنّ هذه جرائم عنصرية أي تبرير لها أو تسامح معها يقتطع من رصيد القضية الفلسطينية عند شعوب العالم بما يتطلب سنوات وجهود مضنية لتعويضه. ولنا أمثلة فلسطينياً عن خسارتنا حلفاء بالجملة بسبب خطف طائرات هنا وتنفيذ عمليات انتحارية ضد أهداف مدنية هناك. والقول في هذا السياق إنه كلما طالت الحرب على غزّة، وكلما توسّعت حروب إسرائيل في المنطقة، تضاعفت هذه الهجمات الإجرامية التي تنتمي إلى عائلتها واقعتا ألمانيا وفرنسا، فإنما هو كلام لا تبرير فيه، إنما تصويب على ما يتجاهله حكام كثر خصوصاً في العواصم الكبرى، يستطيعون إجبار بنيامين نتنياهو على وقف حروبه ولكنهم لا يفعلون. والهجمات الإجرامية تلك ليس اليهود والمسيحيون وحدهم ضحاياها، فإن كانت الأعمال المعادية لليهود تضاعفت ثلاث مرّات تقريباً في فرنسا في النصف الأول من 2024 مع تسجيل 887 واقعة (تتراوح بين خربشات على قبور وجرائم قتل)، مقابل 304 خلال الفترة نفسها من 2023، على خلفية حرب غزة بحسب وزارة الداخلية الفرنسية، فإنّ السلوكات المعادية للمسلمين زادت بدورها في البلد نفسه 30% بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والإحصاء لوزير الداخلية جيرالد دارمانان.
لم يعد العالم على موعد مع حروب دينية مصغرة أو واسعة النطاق وصدام حضارات، بل إنه يعيش ذروة هذه الحروب وهذا الصدام. لا يكاد فلاديمير بوتين يلقي خطاباً إلا ويضمّنه رموزاً دينية أرثوذكسية كثيرة ضد الغرب وعلمانيته ونمط عيشه وثقافته، من دون أن يجد حاجة إلى التصويب على كاثوليكية هذا الغرب وإنجيليّته وإلحاده، فاللبيب من الإشارة يفهم. أما احترامه المسلمين، فيُسأل عنه أهل الشيشان وسورية، وتثبته حقيقة أن روسيا من بين البلدان القليلة في العالم التي امتنعت عن استقبال لاجئين من الشرق الأوسط منذ انفجار موجة اللجوء الكبرى بما أنهم مسلمون. المسؤولون الإيرانيون بدورهم لا يوفرون مناسبة لشتم "خبث اليهود"، ليردّد حلفاء عرب كثر لهم شعارات "الموت لليهود" وفتاوي بأن صراعنا مع إسرائيل ديني أولاً. وما وجود مسؤولي الدولة العبرية الحاليين اليمينيين المتطرفين في الحكم إلا حرباً دينية مكتملة الأركان. نقرة على غوغل باسم داني دانون وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وبنيامين نتنياهو تفيض بأهازيج حرب دينية يتم التصفيق لها وقوفاً وجلوساً في نيويورك وواشنطن. وما الذي يعنيه غير رفع التوتر الديني إلى ذروته، إقرار قانون القومية في إسرائيل الذي يرسّخها "دولة قومية للشعب اليهودي"؟ وفي المقلب الآخر من العالم، في شرقه وجنوب شرقه، الحروب الدينية تقتل وتضطهد جماعات بالملايين من دون أن تثير حنقاً كبيراً، مثلما يحصل مع مسلمي الصين والهند.
ليس حلّ القضية الفلسطينية حلّاً عادلاً وصفة سحرية لإنهاء الحروب الدينية وصدام الحضارات والثقافات والهويات في العالم، ولكنه مدخل مضمون النتائج لخفض منسوب هذه الحرب العالمية المتنقلة التي تجعل الحياة على هذا الكوكب، بالإضافة إلى عشرات الأسباب الأخرى، لا تُحتمل.