هدى وصالونها
المشاهد الأولى التي تابعتها للفيلم الذي أثار جدلا كانت كافيةً لأن تعيد ذاكرتي إلى الوراء كثيرا، إلى مرحلةٍ عشتها بكل تفاصيلها، وهي مرحلة إعدام العملاء والخونة في الشوارع الفلسطينية إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وعلى الرغم من أن هذا الفيلم قد عُرض العام الماضي، في مهرجان تورنتو، كما تمّ عرضه أخيرا في مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة تحت شعار "نساء من أجل القيادة" الذي أطلقته جمعية بيروت السينمائية، إلى جانب تسريبه على موقع يوتيوب، إلا أنه لم يثر هذه الضجة، إلا بعد أن أصبح متاحا لأكبر مساحةٍ من المشاهدين، خصوصا بعد الاعتراض على مشاهد العري في الدقائق الأولى منه التي تشبه سكب دلو ماء مثلّج فوق رأس شخصٍ نائم.
ظاهرة إسقاط الفتيات التي جرت محاربتها عندما كنت في سنوات شبابي الأولى يعرفها كل فلسطيني، وقد أطالت من قائمة المحظورات في حياتنا، نحن الفتيات والنساء، فلم نعد نذهب إلى مصفّفات الشعر اللاتي ساءت سمعتهن. كما ندر إقبالنا على شراء الملابس الجاهزة، ودخول غرف تبديل الملابس الضيقة أو حتى زيارة الخيّاطة أصبح من المحظورات أيضا، ما حدا بالآباء والأزواج إلى شراء الملابس وإحضارها إلى البيوت بأنفسهم تحت شرط التجريب، كما أن المصفّفة كانت تأتي إلى البيوت، لتقوم بعملها المطلوب، تحت سمع ذكور العائلة وبصرهم.
شهدت تلك الفترة المظلمة من عمليات إسقاط النساء قصصا مؤلمة ومأساوية كثيرة تؤكد أن المرأة هي الحلقة الأضعف، سواء بالنسبة إلى نظرة الاحتلال إلى المرأة الفلسطينية، أو نظرة المجتمع نفسه الذي يجرّم المرأة التي تقع في وحل العمالة أو التفريط في شرفها. وفي رأيي الذي لم أتنازل عنه، الخيانة لا تبرَّر تحت أي حجّة أو ذريعة، لا الفقر ولا الاضطهاد ولا كل وسائل الابتزاز، بدليل لجوء طالبة من جامعة بيرزيت، في أواخر الثمانينيات، إلى الانتحار، لكي لا تقع فريسةً وتصبح عميلة وخائنة لوطنها، بعد تصويرها بطريقةٍ خادعةٍ في صالون تجميل في جنين يديره عميل وشقيقته.
كما أسلفت، كانت بداية الفيلم صادمة بمشهد عري المرأة التي تتعرّض للابتزاز والمساومة لاحقا، وقد تخطّت السينما المصرية، والعربية عامة، مشاهد الاغتصاب عبر الإيحاءات، فاعتدنا، نحن المشاهدين، أن نفهم وحولنا أطفالنا من منظر القهوة التي تفور وتنسكب فوق الموقد، والرياح التي تعصف بشدّة في الخارج، بحيث تفتح باب الشرفة على مصراعيه وتتطاير الستائر، أن حادثة اغتصابٍ قد حدثت خلف بابٍ مغلق، وكان المخرج يكتفي بمنظر ظهر عار للرجل، لكي يُشعرنا بجرمٍ ما اقترف بحق جسد مسجّى على السرير. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن أن نتهم المخرج بأنه باحث عن الشهرة بهذا المشهد العاري. ويبدو أن لديه مبرّراته وتصوراته، لكي يظهر الضحية في بداية سقوطها في العمالة عارية، ولا يظهر مشهد عميلة أخرى قتيلة رمياً بالرصاص، ولكننا سمعنا صوت الرصاص فقط.
غير ذلك، يمكن القول إن الفيلم لا يملك حدّا زمنيا معينا، فـ"فيسبوك" لم يظهر سوى في عام 2004. لكن هدى تطرّقت للحديث عن مساوئ "فيسبوك" في بداية الفيلم، مع أن الموقع لم يصبح وسيلة تواصل اجتماعي مؤثرة إلا في السنوات القليلة الأخيرة، ومثله "يوتيوب" الذي أشارت له هدى وسيلة رائجة للحصول على قصات الشعر، فيما أحداث الفيلم جرت في عام 2002، على ما يوضح. وأياً كان ذلك، هناك استخدام كاميرا قديمة، وهي حيلة إسقاطٍ أكل عليها الدهر وشرب. وهناك هواتف ذكية ربما قصد بها المخرج أن يوحي باستمرار ظاهرة العمالة للاحتلال الإسرائيلي، الموجودة فعلا، ويدفع ثمنها الشعب الفلسطيني عامة، وأبناء العملاء وعائلاتهم، خصوصا الذين أعتقد أن تخصيص المخرج ذاته فيلما قادما عن نبذهم سوف يكون مناسبا، ويتماشى مع توجه المخرج إلى طرح قضايا شائكة، مع ضرورة احترامه المشاهد العربي، والفلسطيني خصوصا.